Tuesday, December 22, 2009

زيارة سوريا

كتبنا منذ مدة عن "زيارة سوريا" بوصفها صراع رمزيّات (في نشرة الأفق www.al-ofok.com). وأشرنا الى شروط ينبغي توفّرها كي لا تكون زيارة الحريري مجرد إنجاز للنظام السوري في الحقل الرمزي يضاف الى "نجاحه" السياسي في فكّ عزلته نتيجة الانفتاح الفرنسي والأوروبي عليه، ونتيجة المصالحة السعودية له، ونتيجة دعمه المباشر من قوّتين إقليميتين هما إيران وتركيا، إضافة الى تفضيل القوة الإقليمية الثالثة، أي إسرائيل، له على "المجهول" وتحييدها إياه في حملاتها السياسية والديبلوماسية.
وإذ يمكن القول إن بعض الإجراءات خفّفت من الأضرار على الزائر (كمثل وصوله بالجو وليس بالبر على عادة زيارات "المسؤولين" اللبنانيين في أيام الوصاية الغابرة، وكمثل عقد مؤتمره الصحفي في سفارة لبنان "المُنتزعة" وليس في قصر مضيفه)، إلا أنه يصعب نفي تحقيق النظام السوري تقدّماً "رمزياً" عبّرت عنه صور اللقاء ومجاملاته وبعض العبارات المستخدمة عقبه. كما عبّر عنه عدم التطرّق العلني الى قضايا ستظلّ جدول أعمال للعلاقات اللبنانية السورية في الفترة المقبلة، وسنشير إليها لاحقاً.

على أن ما نريد التعقيب عليه، هو ما رافق الزيارة من تعليقات، أبرز ما فيها ينطلق من الخفّة السياسية (المعطوفة على المبالغات التي تحدّث عنها حازم صاغية في مقاله في ناو ليبانون أمس) إن شماتةً بالزائر وجمهوره، أو مكابرة وتشاطراً متهافتين. فبين من هلّل لما عدّه استسلاماً أكثريّاً "لسوريا الأسد" وتراجعاً عن أخطاء التحريض ضدها في السنوات الماضية، وبين من اعتبر ما جرى تمسكاً "بمبادئ ثورة الأرز"، مروراً بمن عدّ الأمر عودة الى "العمق الاستراتيجي"، ضاع النقاش الذي يُقام عادة في مناسبات كالتي شهدنا.
فلا تقييم الشكل والأسلوب واللغة تمّ، ولا التقييم السياسي لمضمون ما قيل من الطرفين حصل، ولا وضع الزيارة في سياقها الإقليمي جرى.
والزيارة لم تكن لا تراجعاً عن أخطاء ولا تمسّكاً بمبادئ ولا عودة الى التاريخ والجغرافيا وعلاقات القربى والأخوّة وسواها من مصطلحات أقرب الى تلك التي تُستخدم عند توقيع اتفاقيات تعاون بين بلديات أو مخاتير منها الى ما يُستخدم في قاموس السياسة والعلاقات الدولية.
الزيارة كانت حدثاً فرضته المصالحة السعودية السورية، وكانت استكمالاً لمسار التسويات الداخلية الذي أفضى الى إنتاج السلطة التنفيذية. وربما يصحّ القول إنها شكّلت ترجمة رسمية لانتهاء مرحلة كانت الانتخابات النيابية في 7 حزيران الماضي ثم مفاوضات تشكيل الحكومة مؤشرين الى شكل انتهائها، من دون أن يعني الانتهاء تحديداً لسمات مرحلة قادمة تبدو الأمور فيها ضبابية لأسباب كثيرة، منها أن المصالحة السعودية السورية لم توصل بعد الى مصالحة سعودية إيرانية، ولا الى مصالحة سورية مصرية؛ ومنها أيضاً أن الهشاشة الداخلية اللبنانية تسمح بأن يعود التوتر فور عودته إقليمياً، أو فور تصاعده بين إيران والولايات المتحدة، دون أن ننسى قدرة حرب إسرائيلية جديدة على إرباك الأوضاع وجعل أي مآل لها منطلقاً لارتدادات شبيهة بتلك التي خلّفتها حرب تموز 2006.
الأهم، بعد صراع الرمزيات الذي شهدنا، هو جدول الأعمال الذي سيحكم العلاقات الرسمية اللبنانية السورية في المرحلة "الجديدة"، أو على الأقل الى حين رسوّ المنطقة على حال واضحة. وللتذكير، ففي هذا الجدول قضايا ترسيم الحدود، ومزارع شبعا، وقواعد "القيادة العامة" في البقاع والناعمة، والمفقودون في السجون السورية، وبعض الاتفاقات السابقة بين البلدين، من دون إسقاط تبعات ما يرتبط بالمحكمة الدولية، إن تسارعت أعمالها أو تباطأت.
وكل ذلك، سيؤثر في مسار التواصل بين السراي وقصر المهاجرين، كما بين الحلفاء والخصوم في بيروت وضواحيها الشرقية والشمالية والجنوبية...
زياد ماجد

Tuesday, December 15, 2009

عن إلغاء الطائفية السياسية

يستوي طرح إلغاء الطائفية السياسية بأكثر الردود القائمة اليوم عليه.
فالطرح والردود تنطلق غالباً من مقولتين تسطيحيّتين للمسألة الطائفية، تحوّلها الى مجرّد مادة سجال ومزايدة يبدو الهاجس الوحيد فيها ديموغرافياً، إذ يستقوي بها – ويهدّد بتطبيقها – من يرى في عديد طائفته حصانة لموقعه، وينبذها ويندّد بها من صار حضوره في ضمور...
على أن الموضوع، رغم مشروعية المخاوف الرقمية التي يبثّها، أبعد من كونه مادة سجال حول مؤدّياته السياسية المباشرة وما قد تعنيه من انتهاء للمناصفة في المناصب في الدولة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن الأحجام وسجلات النفوس وإخراجات القيد.
فالبحث في الطائفية هو بحث في مجموعة عناصر سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية تكرّست في العقود الماضية وصارت ناظمة للحياة العامة (وأحياناً الخاصة) في لبنان.
والطائفية بهذا المعنى مؤسسة قائمة في ذاتها، وقائمة أيضاً في شبكات من العلاقات في المجتمع وفي الدولة لا ينفع معها التبسيط اليساروي المعتبر إياها حدثاً عارضاً في السياق اللبناني أو وسيلة للتعمية على الصراع الطبقي. ولا ينفع معها كذلك المنحى شبه الثقافوي الذي طالما اعتمده ما سُمّي يوماً باليمين المسيحي والمعتبر إياها علّة وجود لبنان وصنو ديمقراطيته وحماية أقلّياته.
فالطائفية تعليم وتربية وأماكن إقامة مفروزة، وهي أحوال شخصية وشهادات في المحاكم، وأنشطة رياضية وكشفية، ومجالس ملل ومحاكم شرعية تصدر قرارات وتمارس رقابة وتندّد بكتب وبرامج فنية. وهي أيضاً مناصب عليا في الدولة ومواقع في الإدارات تتحول زبائنية ومنافع. وهي قانون انتخاب وتوازنات بين السلطات ورمزياتها، كما هي أمن بالتراضي واختصاصات "وطنية" بالمقاومة أو بالإعمار أو بالسيادة. من دون أن ننسى أنها صراع على التاريخ وتأويلاته، وعصبيات استقطاب وعنف ودفاع عن مصالح وعن مخيلات جماعية، وعن خيارات خارجية وتموضوعات إقليمية.


وإذا صحّ في فترة القول إن التوازن بين الطوائف منع نزوع بعض النخب في الطوائف إياها الى السعي للاستئثار بمقدّرات البلد جميعها على نحو ما جرى ويجري في دول الجوار العربي، فيصحّ أيضاً القول إن الاستئثار نجح رغم ذلك - وعلى دفعات ومراحل - في إدارة الطوائف من داخلها واستنفارها في مواجهة بعضها. فشعارات "توحيد البندقية" أو "وحدة الصف" أو "الالتفاف حول المقاومة" عبّرت كلٌ منها في فترة عن تحوّل الاستئثار سبيلاً لإلغاء المنافسين ثم لمواجهة الآخرين وتحصيل القدر الأعلى من "الحقوق" منهم وعلى حسابهم.
وما يجري طرحه اليوم، إذ لا يبحث في أي من القضايا الأساسية المتعلقة بالطائفية، لا يخرج كثيراً عن السياق السياسي المذكور، المتصل بالتبسيط والاختزال، والمستند أساساً الى منطق استئثار.
فمن يطرح إلغاء الطائفية السياسية هو وأنصاره أكثر ممارسيها تشدّداً في الدفاع عن مواقع طائفتهم "المحرومة والمستضعفة والمقاومة والمستهدفة من الداخل والخارج" على ما يقولون. وهم إذ صاروا يعطفون على طرح الإلغاء تمسّكاً مرحلياً بالديمقراطية التوافقية، وبالسلاح (!) يبدون كمن ينشئون ابتزازاً جديداً مفاده "اقبلوا بالمثالثة التي يؤمنها حق الفيتو في الديمقراطية التوافقية، أو سيروا في إلغاء الطائفية السياسية ولنر من عدد مناصريه أكبر وليأخذ كلٌ حق طائفته وفق عدد الأيادي التي تريده"...
والأنكى، أن بعض من يرفض طرحهم، إنما يعزّزه في ردوده عليه، فيبدو كمن يدافع عن مجد غابر وعن نظام مأزوم، مناقضاً نفسه بنفسه. فعوض التركيز على الدستور وعلى ضرورة الاتعاظ من تجارب العقود الأربعة الاخيرة وحروبها وصراعاتها والبحث في سبل إصلاح النظام (إن بقي للإصلاح معنى)، تراه يتخلى عن التوافقية داعياً الى "الاكثرية" البرلمانية، ثم يتمسّك بالطائفية داعياً الى احترام التعددية والمناصفة "التوافقية"! وهو في الحالين يبدّد فرصة تصويب النقاش، والرد العقلاني والمسؤول على من يستلّ العدد سلاحاً ويعطف عليه غالباً سلاحاً أمضى أثراً منه، هو السلاح نفسه!
زياد ماجد

Tuesday, December 1, 2009

السلاح... تحت، فوق

تبدو السياسة في لبنان منذ أشهر سائرة على إيقاعين مختلفين: إيقاع مصالحات تدّعي طيّاً لصفحة السنوات الخمس الماضية وما حوته من أحوال وأهوال وتحالفات وتجمّعات لم يسبق للبنان أن عرف ما يماثلها في تاريخه، وإيقاع انتخابات طلابية ومهنية ونقابية تستكمل الفرز الذي شهدته السنوات الخمس نفسها وتؤكّد عمقه وصعوبة تبديله بقرارات حتى ولو كان متّخذوها شديدي التأثير في جمهورهم وفي مواقفه واتجاهاته.
فمقابل لقاءات مبهمة ونقاشات تتجنّب البحث في المسائل الجوهرية، ومقابل تصريحات "أخوّة" وبيانات "وفاق" يمكن أن يلهو المرء في تفكيكها وتبيان وهنها وتناقضاتها، تبرز انتخابات حامية التنافس يشارك فيها آلاف المواطنين، طلاباً ومحامين وصيادلة في بيروت وفي أكثر من منطقة. إنتخابات تظهّر المشهد على حقيقته: كتلتان كبيرتان تتصارعان سياسياً ومذهبياً، وتستعيدان تواريخ مجد لكل منهما.
هكذا، تبرز صورة الاجتماع اللبناني - لدى فئات عمرية شابة، ولدى منضوين من أعمار مختلفة في أجسام نقابية ومهنية - على عريها: انقسام عامودي واستمرار لمعسكري 8 و14 آذار قاعدياً، بعيداً عن الخطابات الفوقية، أو ربما تعبيراً عن المواقف الفعلية (الضمنية) لقوم "فوق" حيث التقيّة صارت اختصاصاً لا يشذّ عنه سوى قلائل.
أكثر من ذلك، توحي الصورة بأن الإيقاعين المختلفين فوق وتحت، يسيران أيضاً في اتجاهين متعاكسين. ففي حين يستمر (ما تبقّى من) معسكر 14 آذار في تراجعه في السياسة وفي إدارتها (لأسباب صارت مذكورة في أكثر من موضع)، يستمر جمهوره في التقدّم انتخابياً إن على مستوى الجامعات، أو على مستوى نقابات المهن الحرة المؤثرة في الرأي العام وصناعته، والمتأثّرة به.
والأمر نفسه يسري على معسكر 8 آذار. فتقدّمه وضبطه شروط اللعبة السياسية وتوازناتها لصالحه، لم يقابله سوى تراجع انتخابي له في المواقع المذكورة يبدو تكريساً على "الأرض" لما جهد ويجهد (بنجاح) لمحو آثاره "فوق": صناديق 7 حزيران 2009...

هل من تفسير لذلك؟
طبعاً. فبالإضافة الى التعبئة التي لم تنتهِ مفاعيلها، والحنين الى التعاضد والى أمان الانتماء الى جماعات عريضة، وبالإضافة الى ذاكرة الدم المراق الحية في أكثر من مكان وموضع، ثمة عنصر تماسك "مادي" لن ينجح أحد في نزعه، ولن يكفي تصدّع 14 آذار لإسقاطه: رفض السلاح غير الشرعي وتحالفاته الإقليمية.
وهذا الرفض، سيبقى في المدى المنظور منطلق الفرز الأول في لبنان، من عائشة بكار الى عاليه، ومن زحلة الى صور، ومن الشياح الى التبانة وجبل محسن. وهو سيزداد مركزيّة "تحت" كلما تجنّب "الفوق" نقاشه بهدوء وحكمة وحزم...
زياد ماجد

Tuesday, November 24, 2009

مصر - الجزائر... فرنسا - إيرلندا

شهد العالم الأسبوع الماضي مباراتي كرة قدم عبّرت أحداثهما وتداعياتهما عن قضايا سياسية وأخلاقية خطيرة وعن علاقة تزداد التباساتها بين الإعلام وبين اللعبة الأكثر شعبية وانتشاراً في العالم، وبالتالي الأكثر قابلية للاستغلال والتوظيف على مستويات عديدة.

Monday, November 16, 2009

عن مقارنات السيد نصر الله بين فلسطين وجنوب لبنان


إنطلق أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير من مقارنة بين ما أسماه "18 عاماً من التفاوض و18 عاماً من القتال والمقاومة"، ليخلص الى أن التفاوض ضيّع الحقوق فيما القتال استعادها.
لكن السيد نصر الله وهو يقيم مقارنته، سها عن أمرين لا تستقيم خلاصات من دونهما.
- الأول، اعتماد معايير "علميّة" (بالحدّ الأدنى) للمقارنة بين حالات التفاوض والمقاومة وبين حالات الاحتلال: فحالة فلسطين ليست كحالات سيناء أو جنوب لبنان أو الجولان. ولا يمكن لحصيف أن يقارن الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين الساعي الى إلغاء هويّتها وإقامة المدن والمستوطنات فوق بلداتها واستبدال الأسماء فيها وتغيير معالم أمكنتها وادّعاء حق تاريخي في أرضها وبحرها وسمائها، بالاحتلال لجنوب لبنان، حيث أقام الجيش الغازي مواقع ومعابر عسكرية حصراً، واعترف على الدوام باحتلاله لأسباب وذرائع كان يختلقها.
وبالتالي، لا أوجه شبه بين "صراع الوجود" و"صراع الحدود" تتيح تقديم خلاصات كالتي توصّل إليها أمين عام حزب الله في كلمته، والتي كان يمكن فهمها لو أن السيّد قارن الجنوب بالجولان، أو لو أنه قدّم النصح لحليفه الرئيس السوري بالسير في طريق المقاومة لتحرير الأرض، عوض الطلب الى الأتراك التوسّط مع الاسرائيليين لاستئناف المفاوضات.
- والأمر الثاني، هو مقاربة المسار الفلسطيني على نحو مركّب يشبه تركيبه وتعقيده. فليس صحيحاً أولاً أنه كان مسار تفاوض فقط. وليس صحيحاً ثانياً أن لا شيء أُنجز في المسار الفلسطيني التفاوضي، على الأقل بين عامي 1992 و1996. وليس صحيحاً ثالثاً أن القتال العشوائي غير المحكوم بأفق سياسي أدّى في السياق الفلسطيني الى نجاحات ميدانية تُذكر.
فالمفاوضات بين منظمة التحرير وإسرائيل جاءت بعد عقود من المقاومة من خارج حدود فلسطين، ثم من داخلها. وهي جاءت نظرياً، وفق قرار الأمم المتحدة 242، وبدأت بعد انتفاضة الحجارة التي فرضت فلسطين على الخريطة السياسية العالمية عام 1987 وأجبرت الاسرائيليين على الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبقائده ياسر عرفات. ثم كانت عودة الأخير الى غزة والضفة إيذاناً بإعادة فلسطين الى الجغرافيا "الرسمية" العالمية.


والمفاوضات - بإدارتها العرفاتية - لم تحُل في أكثر من محطة دون إطلاق تحرّكات شعبية للردّ على الانتهاكات الاسرائيلية أو محاولات المماطلة والتملّص من الاتفاقات. كما أنها أثمرت تحريراً لأكثر من منطقة محتلة في الضفة والقطاع. وعندما راح الاسرائيليون "يعوّضون" عن انسحاباتهم العسكرية بتوسيع المستوطنات وقطع أوصال الضفة لمنع قيام الدولة الفلسطينية القابلة للحياة، انفجرت الانتفاضة الثانية في وجههم عام 2000، ووضعتهم خلال أشهرها الأولى تحت الضغط سياسياً وإعلامياً وديبلوماسياً. لكن العسكرة العشوائية للانتفاضة، وتحوّل القتال والعمليات الانتحارية عند البعض الى هدف في ذاته، ورفض الفصائل القريبة من السيد نصر الله وحليفيه الإقليميّين وقف النار الذي دعا إليه الرئيس عرفات بعد 11 أيلول 2001، ساهمت في السماح لإسرائيل بالإفلات من الضغط والانقلاب على ما قبلت به سابقاً على مضض. فراحت تدمّر المؤسسات وترتكب الجرائم وتقضم ما تحرّر من أرض وتكثّف الاستيطان وتبني الجدار، وتحاصر عرفات عدوّها الأول (وربما الأوحد) للقضاء عليه، مستفيدة من المناخات الدولية والإقليمية التي خلقتها اعتداءات نيويورك وواشنطن ثم حربي أفغانستان والعراق.
ما جرى بالتالي بعد عسكرة الانتفاضة الثانية على النحو الذي شهدنا (رغم أنه حمل عدداً من العمليات قتلت من الجنود والمدنيين الإسرائيليين أكثر مما قتل منهم حزب الله منذ نشأته، وليس في السنوات ال18 السابقة فقط) أدّى الى تقلّص الرقعة الفلسطينية المستعادة مقاومةً وتفاوضاً، ثم الى اهتراء الساحة السياسية المنكوبة برحيل عرفات وبهتان من خلفه من جهة، و"لا سياسة" مقاومة حماس وحروبها الأهلية وارتهانها الى دمشق وطهران من جهة ثانية، وشراسة الهجوم الاسرائيلي الشامل من جهة ثالثة. فها نحن اليوم، نتيجة كل هذا، أمام وضع فلسطيني شعبي ورسمي استثنائي التدهور والتفكّك.


إنطلاقاً مما ذُكر، يجوز القول إنه من الأفضل لجميع من يودّ تناول الشأن الفلسطيني أن يُبعد فلسطين عن المقارنات. فالصراع فيها وأدواته وأساليبه لا تشابه بينها وبين ما وقع أو قد يقع في الجنوب اللبناني أو في أي منطقة عربية أخرى مجاورة للدولة العبرية. وأفضل ما يمكن قوله لأهلها بعيداً عن الحديث عن التفاوض أو المقاومة، هو تكرار قول إدوارد سعيد في أن الولوج الى التحرّر وانتزاع الحقوق الوطنية يتطلّب - إضافة الى الصمود في فلسطين - كسب معركة الرأي العام العالمي، تماماً كما كسبها النضال الجنوب أفريقي ضد التمييز العنصري.
أما الصراخ وأحاديث الغيب والمقارنات التبسيطية، فمزايدات عابرة لا تقدّم ولا تؤخّر، ويفيد مطلقيها لو يتواضعوا بعض الشيء.
زياد ماجد

Tuesday, November 10, 2009

بعض الصراحة ضروري

ثمة مرحلة قد انتهت منذ 7 حزيران 2009
مرحلة شهدت تضحيات وإنجازات كبيرة، أهمّها أولاً إخراج القوات السورية من لبنان بعد 29 عاماً على اجتياحها له. وأهمّها ثانياً تفكيك الأوهام والهالات القدسية التي كانت تحيط ببعض القوى، كما وببعض الخطابات والمواقف التبسيطية حول الوضع السياسي وأزمة النظام والحراك الطائفي والمناورات والتحالفات والقسمات المذهبية.
لكن المرحلة شهدت أيضاً إنكشافاً لنقص الإجماعات الوطنية على صراعات المحيط الإقليمي ومحاولات أطرافه التحكّم والسيطرة على بلد يعتبرونه ساحة للرسائل بالكلام والدم.
وشهدت كذلك المزيد من التصدّع في الثقافة السياسية وفي احترام المؤسسات الدستورية وفي الاستخفاف بالقانون والمبادئ الأساسية الناظمة للحياة الديمقراطية.
ورغم أن 7 حزيران أنتج هزيمة إنتخابية لمعسكر حزب الله وردّ على ما نفّذه الحزب في 7 أيار 2008 من فرض لقواعد سياسية بواسطة السلاح والاستباحة الميليشياوية لبيروت، إلا أن عجز المعسكر الاستقلالي (غير المفاجئ) عن بناء دينامية سياسية بعد الانتخابات لأسباب داخلية مرتبطة بفقدانه البرنامج وتضعضع تحالفه، ولأسباب خارجية متأتّية من مستجدّات إقليمية ومصالحات ضغطت عليه، تضاف إليها أسباب أمنية نتيجة الخشية من سعي المهزومين إنتخابياً الى معاودة الاحتكام الى رصاصهم، جعلت الأمور خلال مفاوضات تشكيل الحكومة تأخذ منحى تنازلياً ألغى الى حدّ بعيد نتائج الانتخابات وأعاد الامور الى ما كانت عليه في 6 حزيران 2009.

وينبغي القول إنه مقابل الأداء التراجعي للمعسكر الاستقلالي، تمكّن معسكر حزب الله من التموضع خلف العماد ميشال عون ورفع قدرته الابتزازية الى أعلى مستوى ممكن للإستفادة من الحاجة الماسة عند الرئيس المكلّف لتشكيل حكومة، وتحصيل أقصى ما يمكن تحصيله ليس من أجل الحصة في ذاتها فقط، بل من أجل ثلاثة أمور إضافية:
الأول، القول إن التوافق يعني على الدوام حكومات ائتلاف تمثّل الجميع بمعزل عن الانتخابات النيابية ومن يفوز فيها. وهذا مؤشر الى نحوٍ ثقافي سياسي يُؤثِر القفز فوق خيارات المواطنين وأهوائهم وتفضيل تركيبات "لويا جورغية" تجعل السلطة مجلس إدارة لا يستطيع أخذ القرارات، أي قرارات، إلا بالإجماع. وهذا في ذاته تعطيل للسلطة الشرعية ومؤسساتها، وترك للأمر اللاشرعي الواقع بالتصرّف وقت الحاجة.
الثاني، تيئيس كثر من الناس من جدوى الالتزام السياسي ومعناه، وتيئيسهم من التمسّك بحقّهم في العيش في بلد مستقل وحر وفي كنف دولة وقوانين. وطبعاً تساعد التركيبة المذهبية والمصالح الطوائفية لأكثر القوى على إنجاح هذا التيئيس.
الثالث، تذكير اللبنانيين بأن أحد الأطراف، أي حزب الله، يملك فائض قوة – مسلّح – يستطيع، إن لم يجرِ التجاوب مع ما يريد، إستخدامه لحسم الأمور. وهذا يشكّل مقتلاً للسلم الأهلي وللحياة المدنية عامة.
فهل بعد ما ذُكر، نكتفي بالمكابرة ونبتعد عن تطارح الأسئلة الصريحة حول الضروري فعله في الوقت الراهن، والواجب فعله تأسيساً للوقت المقبل؟ وهل نكتفي بالبهورة أو بالاستسلام لليأس؟
"تشاؤم العقل، تفاؤل الإرادة"، قال أنطونيو غرامشي في سجنه ذات مرة. لعل تذكّر قوله هذا مفيد بعض الشيء في هذه الأيام. ومفيد أيضاً البدء بالبحث في الممكن وفي المنشود...
زياد ماجد

Thursday, November 5, 2009

ثلاثة نماذج شرق أوسطية

يبدو الشرق الأوسط، وهو تسمية لمنطقة تتراوح تعريفاتها الجغرافية بين حدّ وحد وفقاً لخلفية المستخدم ومراميه، مساحة بائسة تبرز فيها دول قوية ثلاث: إسرائيل وإيران وتركيا.

الأولى، مهجوسة بالأمن والديموغرافيا، تحكمها شراسة عدوانية بحجة الخوف، وتتصرّف كقلعة محاصرة تبني الجدران العازلة مع محيطها الفلسطيني المباشر وتسعى الى قهره وقطع الماء والهواء عنه ليقرّ لها احتلالها وتوسيعها ما زرعته من مستوطنات وحواجز ونقاط تفتيش ومراقبة فوق أراضيه.

الثانية، توسّعية، تبحث عن جسور ومواطئ أقدام في الدول المحيطة بها، وتبني تحالفات مع أقليات مذهبية هنا وهناك، إنطلاقاً من إيديولوجيا وبترو دولار وطموح نووي، وانطلاقاً أيضاً من "سذاجة" أميركية استراتيجية في قراءة وضعها، جعلتها طليقة اليدين شرقاً بعد حرب أفغانستان ، وغرباً بعد حرب العراق.

والثالثة، متحرّكة بثقة واتّزان، مستندة الى حداثوية سياسية ومؤسساتية، تتكئ الى ماض أمبراطوري والى مجتمع تقليدي فيه من آثار المجتمعات المحيطة به - والتي حكمها لقرون - ما يسهّل تواصله العميق معها.

وعلى هذا الأساس، تبدو الدولة الاولى، إسرائيل، عاجزة عن النجاح في أي تطبيع أو اختراق أو تعايش مسالم مع دول المنطقة وشعوبها رغم استفادتها من الدعم الغربيّ ومن الوهن الفلسطيني والعربي. وهذا يبقيها في حال استنفار دائم، ويجعل منها دولة حربية لا صلة لها بجوارها سوى صلة الحقد والبارود.

والدولة الثانية، إيران، غير قادرة بدورها على إقامة العلاقات الحسنة والمطمئنة مع الجوار، ولو لأسباب مختلفة، تراوح بين المذهبية وبين خوف الجيران من جنوح السيطرة والتحكّم البادي على سلوكها. وهي لذلك، لا تملك أي حليف على مستوى الدول غير سوريا، "فحلفاؤها" الباقون منظمات أو جماعات أقلّوية تتعاطى معهم من موقع الراعي والمموّل والموظّف أكثر منه من موقع "الحليف"، ولو أنهم في الكثير من الحالات أصحاب مشروعيات شعبية ضمن بيئاتهم.

أما الدولة الثالثة، تركيا، فعلى خلاف الدولتين الأوليين، تبدو من خلال دينامية ديبلوماسيتها الرصينة مؤثّرة ومقبولة في أكثر دول جوارها، إن لم يكن جميعها. فها هي تصالح عدواً تاريخياً وضحية لأمبراطوريتها هو أرمينيا، وتطبّع أكثر فأكثر مع خصم عنيد هو اليونان (للعبور من بوابته نحو أوروبا)، وتستمر في استثمار عمقها التاريخي واللغوي والديني في آسيا الوسطى.

وهي، إضافة الى ما ذكرنا وفي ما يفوقه أهمية، حليفة في الوقت نفسه لكل من روسيا والولايات المتحدّة، قريبة في مذهبها الى المذهب الإسلامي الأكبر المنتشر في المنطقة والعالم. وقد بدأت تبتعد منذ سنوات عن العلاقة الوطيدة بإسرائيل، من دون أن يُظهر ابتعادها هذا ميلاً للتخلي عن حلفها الاستراتيجي مع "شمالي الأطلسي". وهي بالتالي تحافظ على علاقاتها بالقوى العظمى وبالمنظومات الدولية، وتقترب من عواطف وعقول قسم كبير من أبناء محيطها الجيو سياسي، وتحاول حتى تحسين علاقاتها بالأكراد، ضحاياها المستمرّين (وضحايا أنظمة ايران والعراق وسوريا، وضحايا أنفسهم أيضاً!)...

بذلك، يبدو المشهد الشرق أوسطي اليوم فيلماً ثلاثي الأبعاد وثتائي السرعة: بعد جامد هو الاسرئيلي، بعد متحرّك ببطء على حافة الهاوية هو الايراني، وبعد شديد الحراك من دون أن يكون حراكه مقلقاً أو مفزعاً، هو التركي.

أما الجمهور المتفرّج على المشهد وتفاصيله، فهو عربي لم تظهر الى الآن إمارات تحولّه الى لاعب، ولا إضافته بعداً جديداً على الصورة، يغنيها أو يعدّلها...

زياد ماجد

Tuesday, October 20, 2009

أبعد من كونه هفوة

يثير مقال رئيس تحرير صحيفة "الرياض" السعودية حول استحسان "عودة لبنان الى سوريا"، رغم اعتذاره اللاحق عمّا كتب، مسألتين هامتين تظهّرهما تصريحات أو كتابات عربية مشابهة تُنشر بين الحين والآخر.

المسألة الاولى سياسية، تستند الى مقولة يتشارك في نسجها بعض القوميين واليساريين والإسلاميين، فيعتبرون أن مشاكل المنطقة في معظمها نتاج ما خطّطت له اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 حين خلقت "كيانات مصطنعة" لإضعاف "الأمة"، ومن بين تلك الكيانات لبنان. وهم إذ يقولون ذلك، يبدون مقتنعين بأن "دول" المنطقة كانت قائمة على نحو "مكتمل" قبل هذا التاريخ، فجرى خلق بلدان على حسابها، أو بأن المنطقة بأكملها كانت في دولة راسخة واحدة، فاقتُطعت أجزاء منها لتشكيل بلدان "وهمية" تتسبّب بالمصائب لبعضها!

والتدقيق في هذه المقولة المجترّة منذ عقود، لا يبيّن تهافتها العلمي فحسب - فبلدان المشرق العربي تأسست بأكثرها عقب الاتفاقية، مع انهيار السلطنة العثمانية - بل يظهر أيضاً تحوّلها الى ذريعة لأنظمة تسعى الى ابتلاع جيرانها بحجة مشروعيات تاريخية وهميّة وبحجج نزع آثار الاستعمار الذي تآمر على "أمّتها".

أما التآمر، فتنسى أن تقول إنه جزء من عملية فرض حدود (لأهداف ومصالح عديدة) في حقبات مختلفة طالت معظم أنحاء المعمورة، من أفريقيا وبعض آسيا الى الأميركيّتين. كما تتناسى أنه امتدّ ليرسّم خرائط في أوروبا نفسها عقب أفول امبراطوريات وتطوّر نظم رأسمالية وصعود قوميات وانفجار حروب...

على أن الأهم من ذلك، أن صراعات الحدود ومزاعم السلخ ومساعي الضمّ أو "الاستعادة" بالقوة لم تتوقف في أي بقعة من العالم إلا حين جرى التركيز على بناء الدول الوطنية الديمقراطية، والبحث - بعد تحقّق السيادة القانونية والسياسية لهذه الدول على كامل أراضيها – عن أفضل سبل التعاون والتضامن والتكامل في ما بينها. أما الهوس بالبحث عن حدود تاريخية وعن أوهام تَوحُّد لم يقم إلا في أزمنة حروب وتوسّع عصبيات قبلية ودينية، فهروب من مشاكل الحاضر وتحدّياته وعثراته نحو تظلّم واستحضار لشعارات لم تجلب غير استبداد يستظلّ بها ويمارس البشاعات بإسمها...

المسألة الثانية ثقافية (وقيميّة)، وهي تلك المفضّلة التسلّط على الديمقراطية، بحجّة تأمينه الاستقرار وضبطه الأمور. وكاتب المقال السعودي أشار الى الحكم القوي في دمشق، مقابل الحكم الضعيف في بيروت ليزيد من مبرّرات دعوته. وقوله هذا يتردّد كلَّ ما أُريد التنظير للاستبداد في المنطقة، أو التخويف من الديمقراطية والحريات بوصفها استدعاءً للفوضى والتسيّب! والمؤسف أن البعض يكرّره ويتبنّاه متناسياً أن "الاستقرار" تحت الاستبداد ما هو إلا نتيجة استتباب أمور القمع والرعب والقتل والسجن والنفي...

هل هذا يعني أن الديمقراطية مسار سهل أو أنه الحل السحري لمجتمعات ودول انبعثت من بنى بطركية وعشائرية وحكمها العسس عقوداً متناسلين انقلابات وحروباً أهلية؟

طبعاً لا. لكن الخيار الديمقراطي يبقى الوحيد الذي يمكن أن ينقل الأوضاع من طورها المأساوي الراهن، الى طور قد يسمح يوماً ما (لسوريا ولبنان وغيرهما) بالتطور والتقدم من دون أوهام ومخاوف ومطامع...

الموضوع هو إذن أبعد من موضوع مقال سطحي ظهر في جريدة، وأعمق من كونه هفوة اعتذر صاحبها على ارتكابها. هو موضوع تخبّط سياسي وثقافي يصيب الكثيرين في المنطقة. وهو تخبّط لم تؤدّ الأزمات والأهوال حتى الآن الى تهدئة روعه، كما لا يبدو أنه سائر نحو السكينة أو الاندثار...

زياد ماجد

Monday, October 12, 2009

كرامات الصحافيين والإعلاميين

لا أعرف الكثير عن الأوضاع المالية والإدارية للصحف ووسائل الإعلام. ولا أستبعد أن يكون بعضها مأزوماً فعلاً نتيجة عوامل عديدة خارجة عن إرادته او مرتبطة بها...

لكن ما أعرفه، هو أن للعاملين في الميدان الصحافي والإعلامي كرامات، وأن كراماتهم هي من كرامة القطاع الصحافي والإعلامي ككل، وأن انتهاكها هو انتهاك لجسم ظلّ – على علاّته وأوهانه – يخلق مساحات حرية واستقلالية سمحت لهذا البلد الصغير أن يطوّر تجربة لم تعرفها منطقته، وأن يفعّل طاقات إبداعية غيّب الاستبداد المحيط مثيلاتها عن البلدان التي قهر.

فأن يُفصل صحافيون من أعمالهم ومراكزهم لأسباب لا ترتبط بأخطاء جسيمة ارتكبوها، أو بممارسات مسيئة للمهنة اعتمدوها، فالأمر مدعاة حزن وسخط.

حزن على مصير بعض من اعتبروا القلم (أو الكاميرا أو المذياع) جسر عبور لهم نحو الناس وقضاياهم، ونحو المعرفة وفضاءاتها، أو نحو الأحداث وما تمليه من قراءات وتحليلات ومحاولات فهم وإفهام.

وسخط على غياب القوانين والنقابات الحامية لهؤلاء والمؤمّنة لهم سنداً يقيهم شرور فقدان العمل ومتعته ودخله...

فكيف والحال صرف بأساليب مهينة أو بأعذار غير واضحة تترك للتأويلات احتمالات الترعرع والتكاثر؟ وكيف وبعض المستهدفين من أبرز المثقّفين والكتّاب والصحفيين في لبنان؟

كان يمكن لإدارات المؤسسات المعنية (إن كانت مأزومة فعلاً) أن تعقد اجتماعات عامة أو خاصة مع العاملين فيها، أن تُطلعهم على أوضاعها، أن تقول لهم إنها لم تعد قادرة على الاستمرار معهم على النحو نفسه الذي ساد سابقاً، أن تخيّرهم بين تخفيض المعاش أو الاستقالة والتعويض اللائق، أن تشرح أسباب التأزم وانعكاساته... أن تتصرّف كما الصحف ووسائل الإعلام الحديثة (الغربيّة تحديداً التي تسعى الى التشبّه بها)، حيث تُعرض على المعنيين ترتيبات تتيح لهم الانصراف الطوعي، على نحو يحقّق للمؤسسة الهدف المادي أو الإداري المرجوّ من الاستغناء عن خدماتهم ويحافظ في الوقت عينه على كراماتهم، متيحاً لهم البحث الهادئ عن بدائل والتطوّر اللاحق من خلالها.

لكن الطرد وبثّ الإشاعات ومحاولات التشهير وكيل الشتائم يولّد المرارة والتنابذ، مزكياً القول في وجود أسباب غير تلك المعلنة. وهو يُفقر المؤسسات ليس ممّن خسرت فحسب، بل أيضاً من الكثير من القيم التي من دونها لا تستقيم حرية ولا يقوم احتراف...

إن ما يجري في بعض الإعلام اللبناني اليوم مقلق ومؤسف. والسكوت عنه، لا سيما من قبل الحريصين عليه، مشاركة في إثم القبول بتجريد الإعلام (والصحافة منه بخاصة)، من معايير مهنية ومن حريات وتعدّدية واستقلالية هو أحوج ما يكون الى الدفاع عنها، وتحصينها...

زياد ماجد

Thursday, October 8, 2009

مرحلة انتهت، لكن أبرز تحالفاتها قد يبقى قائماً

يشهد لبنان في هذه الأيام، إضافة الى تأثيرات الخارج وتدخّلاته، ترجمةً لعدة تحوّلات حصلت في اجتماعه السياسي في العقدين الماضيين، وتجسيداً لأزمة نظامه وفلسفته التوافقية.

ويمكن الحديث حالياً عن ثلاثة عناوين كبرى، والانطلاق منها لمقاربة قضية الاصطفافات السياسية وما يحلّ بها بعد أفول مرحلة بدأت رسمياً في 14 شباط 2005 واستمرت حتى 7 حزيران 2009.

العنوان الأول هو انتقال تدريجي للقسمة الطائفية – السياسية "المركزية" (التي كانت منطلق الصيغة اللبنانية وأساس ميثاق ال1943 ومحور التعديلات المقترحة في اتفاق الطائف) من قسمة مسيحية مسلمة الى قسمة سنية شيعية. وهذا الانتقال له انعكاسات عميقة الأثر في الواقع السياسي، وهو يفسّر الكثير من الظواهر القائمة، وتتطلّب معالجته بحثاً هادئاً في مضاعفاته لضبطها ولمنع تكريسها، دستورياً على الأقل...

العنوان الثاني هو تجدّد الخلافات الداخلية حول موقع لبنان في منطقته ودوره بعد فصول مشابهة جرت في مراحل سابقة. وهي خلافات تأتي ككل مرّة في ظل متغيّرات إقليمية ودولية، وفي ظل تعبئة شعبية واسعة تهدّد "السلم الأهلي".

أما العنوان الثالث، فهو أزمة الديمقراطية التوافقية كما يظهّرها النظام ربطاً بإشكاليات العنوانين الأوّلين.

1- في القسمة الطائفية

عرفت نهاية الحرب والسنوات التي تلتها خروجاً للمسيحيين "الأقوياء" من صناعة القرار ومؤسساته. ذلك أن الإدارة السورية المستفيدة من الغطاءين الأميركي والعربي بعد حرب الخليج الثانية أعادت تشكيل السلطة مبعدة عنها القوى المسيحية ذات الشعبية الأكبر، من خلال النفي والسجن وقانون الانتخاب ومن خلال إضعاف رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش وما يمثلانه في الفعل وفي الرمز المسيحيَّين.

وقد ترافق ذلك مع صعود كبير لقوتين متنافستين: الحريرية، والحزب إلهية.

الأولى، إقتصادية – مالية وإعمارية مدجّجة بالعلاقات العربية والدولية تحتاج للاستقرار ليتطوّر أداؤها ومشروعها.

والثانية، قتالية – عقيدية مرتبطة إيديولوجياً ولوجستياً بإيران وتحتاج الى إبقاء الحدود الجنوبية ساحة، وتوفّر لها الإدارة السورية في السياسة ما تحتاجه في العسكر: حرية الحركة وحرية القرار الحربي.

وقد فرضت دمشق تعايش القوّتين المذكورتين اللتين تحوّلتا أيضاً منطلقي علاقة الخارج بلبنان، قبل أن تبدأ في العام 1998 مسار تطويق للحريرية (لأسباب لبنانية ولأسباب داخلية سورية أيضاً) من خلال إيصال إميل لحود الى رئاسة الجمهورية ودعم مكوّن أمني مخابراتي في السلطة يخاصم الحريري ويصارعه داخل جميع المؤسسات، بما فيها التي يرؤس.

لكن التطورات بعد ذلك في الخارج والداخل، من الانكفاء الاسرائيلي عن الجنوب بعد احتلال دام 22 عاماً الى موت مسار التسوية في المنطقة الى نداء المطارنة (وما مثّله من موقف مسيحي هجومي في مواجهة الهيمنة السورية) وقيام لقاءي قرنة شهوان والمنبر الديمقراطي والمصالحة الدرزية المارونية إثر زيارة البطريرك الى الجبل، دفعت جميعها باتجاه تعديل موازين القوى لغير صالح النظام السوري ومساعيه. ثم جاءت حرب الخليج الثالثة عام 2003 (ووصول الأميركيين بمشروعهم "التغييري" الى المنطقة) لتنهي تفويض واشنطن لسوريا بإدارة لبنان. كما جاء البحث الفرنسي عن سبل مصالحة أميركا بعد خصامهما العراقي، لينتج القرار الأممي 1559.

وقد جعلت التطوّرات جميعها - في ظل رفض دمشق الإقرار بنتائجها – المواجهة في لبنان وعليه حتميّة. فجرى اغتيال رفيق الحريري بعد محاولة اغتيال مروان حمادة في رسالتين متتاليتين لإظهار مدى ذهاب النظام السوري بعيداً في دفاعه عن "موقعه" اللبناني. وأدّى ذلك الى انفجار إنتفاضة شعبية غير مسبوقة بحجم اصطفافاتها وبحيويتها، حشدت مئات الألوف من اللبنانيين، بعضهم بصفته المواطنية، وبعضهم بصفته جزءاً من كتل طائفية كبرى، يمكن القول إنها كانت بقيادة السنة وبشعارات المسيحيين وبإدارة وليد جنبلاط. وهي أدّت بموازاة الضغوط الأميركية والفرنسية والسعودية والمصرية والتركية الى خروج القوات السورية من لبنان بعد 29 عاماً على اجتياحها له.

في مواجهة هذه الانتفاضة الاستقلالية المثلّثة الأضلاع طائفياً، خرج أكثر الشيعة مصطفّين حول حزب الله ومعلنين الدعم لدمشق.

وعبّر خروجهم عن قرار حزب إلهي بالاندفاع نحو الداخل لمنع قيام سلطة سياسية ما بعد سورية تُعيد النظر في التموضع الإقليمي للبنان الذي كرّسته دمشق بما يمكن أن يهّدد حرية الحزب في حركته العسكرية جنوباً وفي ربطه الحدود بالمصالح الإيرانية من ناحية، وعن رغبة "جماعية" عندهم في حجز موقع أساسي في لبنان الاستقلال الثاني (ولو من خلفية معارضة له) بعد هامشية الموقع منذ الاستقلال الأول من ناحية أخرى.

ولم ينفع التحالف الرباعي في الانتخابات التي تلت 14 و8 آذار في ردم الهوّة بين المعسكرين وطمأنة الجميع الى موقعهم ودورهم في المرحلة الجديدة. بل هو فاقم من "المشكلة" المسيحية ومدّد ثانوية الموقع السياسي المسيحي في المعادلة الوطنية، خاصة مع العجز عن إسقاط إميل لحود وانتخاب رئيس جديد للجمهورية يعيد البريق الى الموقع ودوره المترنّح.

فكان انتقال العماد ميشال عون الى الحلف مع حزب الله (لأسباب مختلفة)، وما يعنيه الأمر من منح غطاء للموقف الشيعي المصرّ على إبقاء لبنان في الفلك الإيراني السوري، وكانت الأحداث والأهوال التي شهدنا، من الاغتيالات والاعتصامات وتعطيل المؤسسات وإحقاق الفراغ الدستوري والتجاذب حول المحكمة الدولية وقرارات الأمم المتحدة، مروراً بحرب تموز ومدلولاتها الإقليمية وتداعياتها مع انتصار حزب الله سياسياً فيها وسعيه الى توظيف ذلك في الداخل اللبناني (الذي أظهر هشاشته التوافقية خلالها)، وانتهاء بأحداث 7 أيار الدموية واتفاق الدوحة، لتعلن جميعها أن الازمة اللبنانية صارت عصيّة على الحل من دون غطاء إقليمي ودولي. وهو الغطاء الذي لا تبدو الأمور المتبدّلة متّجهة حتى الآن إليه.

ورغم انتخاب رئيس جمهورية العام الماضي وإجراء انتخابات نيابية جديدة منذ أشهر، فإن المعادلة اللبنانية الداخلية لم تتغير كثيراً لثلاثة أسباب:

الأول، أن الكتلة السنية (التي حسمت الانتخابات مباشرة في 36 مقعداً ورجّحت الكفة في 7 مقاعد إضافية) والكتلة الشيعية (التي حسمتها في 28 مقعداً ورجّحت الكفة في 12 مقعداً آخراً) ظهرتا من جديد كمحوري الاصطفافين الداخليّين حجماً ديمغرافياً ودوراً سياسياً وتعبوياً.

الثاني، أن مواقف العماد عون ونجاحه الانتخابي النسبي (رغم التراجع الكبير في حجم الكتلة المسيحية الناخبة له) أبقت الانقسام المسيحي على توازن بين المعسكرين. كما أنها أضعفت (ولو مؤقتاً) دور رئاسة الجمهورية من خلال التركيز على فكرة أن المشروعية المسيحية الشعبية خارجه، مما جعل المعركة السياسية الفعلية تبدو أكثر فأكثر سنية شيعية بغطاءين إقليميين متناحرين وبانقسام مسيحي تجاهها.

الثالث، أن النظام السوري لم يقتنع رغم ضعفه الشعبي لبنانياً ورغم هزيمة حلفائه في الانتخابات في مختلف الأقضية والمناطق غير الشيعية (باستثناء زغرتا، حيث الأسباب متعدّدة) أن دوره في لبنان لا يمكن أن يكون هيمنة أو تقاسم سلطة مع اللبنانيين، وأن "قاعدته الشعبية" الشيعية مرتبطة بحلفه بإيران وبمدى التزامه بهذا الحلف. وهو ما زال يحاول عرقلة المسار السياسي اللبناني لاستدراج عروض شراكة في المرحلة القادمة وانتزاع تطبيع رمزي معه، يُعطف على بعض الانفراجات في علاقته مع السعودية، هو التطبيع "الحريري".

بذلك، أُقفلت مرحلة من الصراع الداخلي ومن المعارك الإقليمية والدولية على عودة الى المربّع الأول: توازن رعب طائفي – أهلي (معادلته "الناخبون في 7 حزيران مقابل المسلّحين في 7 أيار")، ومراوحة سياسية وأمنية بانتظار التطوّرات الخارجية (تسويات أو مواجهات) وأثرها على سلاح حزب الله (وما يمثّله من تهديد استخدام في الداخل أو على الحدود الجنوبية)، من دون إسقاط حجم الإنجاز الوطني الذي حدث، والمتمثّل بإخراج القوات السورية من لبنان والصمود في معركة الاستقلال الثاني (رغم الضغط الأمني وحملات التهديد التي رافقته)...

2- في موقع لبنان ودوره

منذ أزمة العام 1958 و"الميني - حرب أهلية" التي تخلّلتها، مروراً بأزمة العام 1969 ثم بالحرب الأهلية وانتهاءً بما يجري اليوم، يبدو جلياً عمق الخلاف الداخلي حول موقع لبنان ودوره في محيطه. ويبدو جلياً أيضاً اتخاذ هذا الخلاف الطابع الطائفي والمذهبي، مما يتيح له التسلّل الى مؤسسات الدولة نفسها وشّلها نتيجة تعدّد الرؤوس في النظام وانتمائها غالباً الى المحورين الخارجيين المتنابذين. فينتقل عندها الصراع الى الشارع، ويصبح الخارج تلقائياً محلّ التحكيم تهدئة أو دفعاً نحو المزيد من التصعيد.

وهذا يلغي المناعة الداخلية ويجعل البلاد على الدوام تحت رحمة الوضع الإقليمي، ويجمّد كل الأمور الأساسية بانتظار تبلور المعطيات الخارجية، واحتمالاتها اليوم كثيرة.

3- "الديمقراطية التوافقية" المأزومة

يبيّن التدقيق في بعض القضايا التي وسمت التجربة اللبنانية، بأزماتها وانفراجاتها، أن استلهام الديمقراطية التوافقية لم يكن على الدوام ناظماً للخيارات السياسية التي اتّخذها اللبنانيون، كما أن مؤسسات الدولة لم تنجح في العمل على الدوام بوحي من المبادئ التي خاض في تعريفها المفكر السياسي أرنت ليبهارت وغيره من منظرّي الديمقراطية التوافقية.

ويبيّن التدقيق أيضاً أن ما جرى عام 1943 من "نبذ متبادل" للمشروع العربي وللانتداب الغربي تأسيساً للاستقلال الوطني، وما تكرّر عام 1989 ولو بصيغة ثانية من تأكيد على عروبة لبنان (بديلاً عن "الوجه العربي")، وفي الوقت عينه على نهائية الكيان (بديلاً عن الأدبيات القومية المتخطية للحدود) لم يضمنا توافقات ثابتة يعود إليها اللبنانيون خشية الصدام حين تتباين وجهاتهم تجاه "الخارج".

لذلك، ها هو لبنان مجدداً جزء من منظومة صراعات إقليمية، ليس من خلال الدولة فيه، بل من خلال قوة أهلية مسلحة تمنع الدولة (ومن داخل مؤسساتها) من القدرة على التصرف أو التموضع، وتجعل كل رفض لخياراتها الخارجية يجاهر به لبنانيون آخرون صداماً مع جمهورها في الداخل.

وإن عطفنا على هذه المشكلة تجاه "الخارج" أزمة الأحجام داخل السلطة وسعي كل طرف للاستفادة من ظروف داخلية وخارجية يعتبرها لصالحه لتوسيع حجمه وحصّته بعيداً عن القبول بتوازنات التوافقية السابقة على الظروف التي تعنيه، وصلنا الى وصف واقعنا بالمعضلة وبالحالة المتطلّبة إصلاحاً جذرياً وتغييراً لصيغ الحكم لا تتيحه الأوضاع الحالية ولا توازناتها.

إنتهاء مرحلة قد لا يعني انتهاء كامل تحالفاتها

إذا كانت هذه العناوين – وهي قديمة متجددة - هي أبرز معالم التأزم اليوم، وإذا كان الحسم لصالح أحد المعسكرين الداخليين متعذّراً، وإذا كانت مرحلة السنوات الاربع الأخيرة قد انتهت على تعادل (فبقيت أكثر قضاياها معلّقة)، فإن البديهي يصبح البحث عن تخفيف حدّة الاصطفافات وخلط الأوراق للخروج من التوتر الخطير.

لكن البداهة هذه ليست بالسهولة المفترضة، ولا بقابلية التحقّق السريعة.

ولنا في حركة وليد جنبلاط دليل على صعوبة خلق دينامية جديدة في ظل صلابة الاصطفافين الشيعي والسنّي خلف زعامتي حزب الله وسعد الحريري.

وإذا كانت قراءة جنبلاط للتبدّلات الخارجية من جهة، ورغبته تخفيف التوتّر مع حزب الله بعد الاشتباكات الدموية في الجبل وبيروت وقبل ما قد يصدر عن المحقق الدولي في جريمة اغتيال الحريري من جهة ثانية، إضافة الى خشيته على زعامته الترابية territorial نتيجة وضع جبل لبنان الجنوبي وما ظهر فيه من تنافس على المقاعد بين الحلفاء عشية الانتخابات النيابية، هي ما أملت عليه الخروج من 14 آذار (والإبقاء على علاقة متينة بتيار المستقبل حصراً)، فإن وجهته الوسطية التي يعتقد أن نبيه بري يستطيع التواصل معها لن تفيد في كسر حدّة الاصطفافين. بل أكثر ما يمكنها فعله هو تأمين قنوات اتّصال بينهما (وربما التنسيق مع رئاسة الجمهورية للعب دور ترجيحي عند المنعطفات المهمة).

إنطلاقاً من الصعوبة هذه إذن، يبدو لنا أن المرحلة المقبلة لن تشهد تغييرات داخلية كبيرة قبل نضوج الظروف الخارجية. فتحالف تيار المستقبل مع القوات اللبنانية يبدو مستمراً، في وقت لن يبتعد حزب الكتائب كثيراً عنه، وإن كان يحاول التمايز في عدد من الملفات المسيحية أملاً في بعض التوسيع لقاعدته الشعبية ولحضوره الجغرافي.

وفي المقابل، لا مبرّر موضوعياً يشير الى احتمال انفكاك التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر، وسيبقى نبيه بري بدوره في هذا التحالف مع هامش يسمح له (كما ذكرنا) بالتواصل عبر وليد جنبلاط مع التحالف المقابل، كما سيبقى حزب الطاشناق قريباً الى هذا التحالف ولكن من دون تماهٍ معه (خاصة إن تباين موقفه مع موقف رئيس الجمهورية).

أما سائر القوى والهيئات والشخصيات (في 14 آذار، وليس في 8 لأن الأخيرة أشد مركزية في علاقتها بمرجعيتها الإقليمية)، فلا تبدو رغم جدّية بعضها، قادرة اليوم، على تشكيل اصطفاف ثالث فاعل، أو حتى التأثير عميقاً في الاصطفافين. لعل بعض الوقت يتيح لها إعادة قراءة المشهد العام والبحث في سبل التعاطي المستقبلي معه...

زياد ماجد

Tuesday, September 29, 2009

في أصل البلاء: الاستبداد

يذكّرنا الأداء الفضائحي للزعيم الليبي في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة بمدى الانحطاط المهيمن على المشهد السياسي العربي.
فأن يهذي "رئيس دولة"، سبق وصوله الى نيويورك ضجيجٌ حول المكان الذي قد يسعى لنصب خيمته الشهيرة فيه، لمدة ساعة وأربعين دقيقة، دون خشية تقييم لما يقول أو رصد لما يفعل، فالأمر مدعاة تأمّل في هول البلاء الذي أصاب الجماعة التي يُفترض أنه "يُمثّلها" منذ أربعين عاماً!
ذلك أن القول بالصفقات الدولية التي سمحت له بالبقاء على رأس بلاده، والتذكير بأنه دفع نقداً ونفطاً وشراءً للسلاح ثمناً لها، لا يكفيان لتفسير تربّع العقيد على عرش ليبيا منذ انقلابه في الفاتح من أيلول عام 1969. وهذا ما يحيلنا ربما الى البحث تكراراً في ما يفعله الاستبداد في المجتمعات المنكوبة به، وفي قدرته مع الوقت على تهشيمها – وهي المصابة أساساً بأعطاب النظم البطريركية والتركيبات القبلية والعشائرية – وجعلها متكيّفة معه وعاجزة عن إنتاج البدائل عنه، أو حتى وسائل الضغط الجدّية عليه.


وما يفعله الاستبداد يقوم على المزج بين "المأسسة" للأدوات القمعية والرقابية التي تدير شؤون البلاد والعباد، و"الشخصنة" المتمحور حولها كل إنجاز والمتحوّل عبرها التراجع تقدّماً. وهو يخلق عبر مزيجه المذكور مستويين من التعاطي مع المجتمع: الأول ملموس ومادي، والثاني رمزي ومعنوي، وكلاهما يودي الى المصيبة عينها...
في المستوى الأول، يؤسّس الاستبداد أجهزة مخابرات متعددة ومراكز قوى تأتمر به مباشرة، ويراقب الواحد منها الآخر، وتنشر جميعها الصمت والموت، كما تخنق المدن بوصفها مراكز الثقافة والانتاج والتنوّع.
ومع مرور الوقت، ينجح الرعب والتسلّط المباشر في تحويل عنفها الى عنف رمزي. فيكفي أن يخاف الناس من بعضهم ويراقبوا ذواتهم ويقمعوا آراءهم "لتجنّب الشرّ" حتى يستتبّ الأمر "للأشرار" ويطمئنّوا الى سيطرتهم.
وبالترافق مع ذلك، يشكّل حزب الاستبداد الحاكم (أو جماعته الأهلية)، بموازاة الأجهزة القمعية والبيروقراطية، أداة أخرى للنظام و"قاعدة اجتماعية" له. فمن خلال المنظمات و"المؤتمرات الشعبية" التي تضم الاتحادات النقابية والقطاعية كافة، ومن خلال الفروع التي تراقب المدارس والجامعات ومناهجها والإعلام العام وبرامجه، وتجيز تقديم منح التخصص وتوفير فرص العمل أو حجبها، يسيطر "النظام" على الشأن العام ومختلف مساحاته ومواقعه. فتصبح الطاعة له والولاء (ولو كذباً) قاعدة استمرار للناس وعيشهم بأمان.
أما في المستوى الثاني، فلا يظهر الحاكم قائداً لمجتمعه ونظامه فحسب، بل يتحوّل وسيلة لإقناع الناس بما "ينبغي" الاقتناع به. فيحيط شخصه بألقاب ويختلق حقائق ويلزم الجميع بتصديقها، أو بالتظاهر بتصديقها، وينشر صوره في طول البلاد وعرضها بوصفه "الأب المحبوب والزعيم المفدّى والسدّ في وجه المؤامرات". فتصبح رمزيّته المدّعاة هي ذاتها رمزية "الأمة" أو الوطن لاختصارهما بشخصه وبهامته.
بهذا، تنتفي إمكانية بروز القيم التعاقدية بين المواطنين، كما بينهم وبين "دولتهم"، ويتحوّل الحاكم الى شخص معنوي مفروض تقديسه، لا يجرؤ على المس به أو تناوله أحد، وتموت السياسة وتذبل الثقافة وتزداد أوصال المجتمع تقطّعاً، فيصبح عجزه عن إنتاج الحيويات والمبادرات شاملاً.
النتيجة: أن شخصاً مثل القذافي الذي يبدو اليوم في زيّه الفولكلوري وتصفيقة شعره وكتابه الأخضر أقرب الى التهريج منه الى أي شيء آخر، يتصرّف منذ عقود بمليارات الدولارات، وبحياة الناس إن شاء، ويعيّن نفسه ناقداً أدبياً وروائياً (على طريقة صدّام) ومصمّم سيارات ومفكّراً وحاملاً لواء العالم الثالث بأسره. ويصير طبعاً فرجة في المحافل الدولية يثير السخرية، والسخط، والحزن...
زياد ماجد

Tuesday, September 22, 2009

"حلّو عنُن"

يمكن التوقّف عند الكثير من الأمور في الكلمة المتلفزة للسيد حسن نصر الله في "يوم القدس". ويمكن التعليق على تأكيده القدرة "على دخول بيت المقدس بالباصات والفانات" ما أن يُباد نصف الجيش الإسرائيلي إن حاول دخول لبنان. ويمكن أيضاً الالتفات الى تفسيره أسباب فشل المفاوضات السورية الاسرائيلية عام 2000 وما إذا كانت الأمتار المحيطة ببحيرة طبريا هي السبب الفعلي أم لا، كما يمكن الخوض في نقاش حول تقييمه للأوضاع الإيرانية الداخلية التي ادّعى خبرة في فهمها ومعرفتها.
لكن ما نريد التعقيب عليه لا علاقة له بكل ذلك. هو ببساطة مرتبط بما كرّره السيّد نصر الله من استخدام لعبارة "حلّو عَنُن" في معرض مخاطبته من لا يساندون "المقاومة" (أي حزب الله) في لبنان.
فقد اعتبر، مشكوراً، أن الناس أحرارٌ في عدم دعم حزبه (واستطراداً نظامي طهران ودمشق إذ أعلن تشرّفه بالانتماء الى محورهما)، لكن عليهم بالمقابل أن "يحلّوا عنه"، أي أن يتركوه وشأنه.
أما شأنه، فليس سوى التصرّف بقراري الحرب والسلم في لبنان (ولو من موقع الدفاع عن النفس)، وبقراري الاستقرار والدمار (الخاصين بالناس إياهم المفترض أن "يحلّوا عنه")، وطبعاً وفقاً لتطوّر الأمور في المنطقة ككل.

وقضية "الحلّ عن" حزب الله هذه، تعكس أمرين.
الأول، ثقافة تناقض في الجوهر فلسفة التعاقد السياسي والاجتماعي في بلد ما، وتناقض بالكامل فلسفة الدولة ومعاني سيادتها في أي بلد بالمطلق.
ذلك أن كل تعاقد يتطلب تشاركاً في مختلف الأمور، موافقةً أو رفضاً وسعياً للتغيير أو التعديل. وفي كل الحالات لا مجال لترك أحد وحاله. كما أن أي وجود لدولة يقتضي سلطة لها ودوراً لا يمكن التعاطي معه في أبسط الأمور على قاعدة "الحلّ عن". فكيف إذا كان الموضوع هو الأخطر على الإطلاق، أي الصراع المسلح!
والأمر الثاني مرتبط بمناقضة "الديمقراطية التوافقية" التي لا ينفكّ السيد نصر الله ومسؤولو حزبه يشدّدون عليها هذه الأيام. وهي تعني بالنسبة إليهم مشاركتهم في كل أطر صنع القرار في المؤسسات، وحصولهم على "الثلث الضامن" في السلطة التنفيذية. لكنهم، حين يصل الأمر الى السياسة الخارجية أو شؤون الحرب والسلاح، ينسون أن ثمة ديمقراطية وأن ثمة توافقاً، ويعلنون أن "المقاومة" وحدها تخطّط وتقرّر وتنفّذ، وما على الباقين (ولو كانوا قسماً كبيراً جداً من اللبنانيين) إلا أن ينصاعوا لخياراتها أو يتركوها وحالها.
هو الانتقاء إذن، وهو يذكّر بانتقاءات أخرى قام بها السيد منذ فترة، متناقضة في ما بينها، ومناقضة أيضاً للديمقراطية التوافقية التي "يتمسّك" بها (من الحديث عن أكثرية شعبية مقابل الأكثرية البرلمانية بعد خسارته الانتخابات، وما في هذا من مخالفة لأبسط قواعد الديمقراطية التوافقية - وكل الديمقراطيات الانتدابية - الى الحديث عن حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية شرط إقامة انتخابات جديدة، وكان ذلك إيام تركيزه على "الأكثرية الوهمية" وعلى "السلطة غير الشرعية" قبل أعوام قليلة)...
في أي حال، لا تبدو الفائدة كبيرة من المساجلة مع مقولات تبسيطية تنطلق من فهم خاطئ للمفاهيم والمصطلحات. ومن الأفضل ربما الاكتفاء بالتذكير بأن لبنان المنكوب بجغرافية سياسية تمارس الضغط الدائم عليه، محكوم بصغر حجمه وبتداخل ديموغرافيته الطوائفية وبتجاور قواه المجتمعية والسياسية المختلفة. وهذه وتلك لا تبدو مهيّئة "لتحلّ عن بعضها" أو "تفلّ" أو تترك أحداً يتصرّف بمصائرها وحيداً. ومن الضروري، بالتالي، البحث عن سبل أخرى (سلمية طبعاً) لتسوية الخلافات حين تنشب بينها...
زياد ماجد

Monday, September 14, 2009

ليس بأي ثمن

لا شك أن القوام السياسي الوطني لا يستقيم من دون تشكيل حكومة، وأن حضور القوى السياسية-الطائفية الكبرى في السلطة التنفيذية ضروري طالما أن فلسفة النظام كما توازن القوى الداخلي والإقليمي لا يتيحان تشكيل الحكومة أحادياً من قبل الأكثرية الفائزة في الانتخابات النيابية.

ولا شك أيضاً أن التحدّيات الأمنية والقانونية والاقتصادية التي يواجهها لبنان نتيجة التهديدات الخارجية، ونتيجة الهشاشة الداخلية والخلافات حول الخيارات الكبرى في البلاد تتطلّب حواراً جدّياً وبحثاً داخل المؤسسات حول سبل الحد من الاحتقان في الشارع والابتعاد (ولو مرحلياً!) عن حملات التخوين بانتظار التطورات الإقليمية وما ستحمله من انفراجات أو انفجارات.

وهذا كله يتطلّب تشكيل مجلس وزراء وإعادة الحياة الى المجلس النيابي، والعمل ولو بالحدّ الأدنى على تحويل "الستاتوكو" القائم من ستاتوكو متوتّر الى ستاتوكو هادئ يتيح بعض الحركة الاقتصادية من جهة، ويحدّ (نسبياً) من الإضرار الأمنية المتوقّعة إن تدهورت الأمور لاحقاً في المنطقة من جهة ثانية...

لكن تشكيل الحكومة، بما يرمز إليه في تفاصيله وفي الأحجام المعتمدة فيه، ينبغي ألا يكون مادة ابتزاز تلغي بالكامل نتائج الانتخابات النيابية وتطيح بحق الفائزين في ترجيح الموقف في السلطة التنفيذية، رغم الشراكة والتوافقية الطوائفية "الإلزامية"، خاصة وأن رئاسة المجلس النيابي قد آلت الى قطب من الأقلية يشكّل أحد طرفي الثنائية الممثلة الأكثرية الشيعية (والخاسرة الانتخابات على الصعيد الوطني).

بهذا المعنى، ينبغي ألا يبقى هاجس تشكيل الحكومة – بعد تعذّره في التجربة السابقة رغم مفاوضات 70 يوماً – ضاغطاً على الأكثرية حكراً، يستدعي التنازلات المستمرة، طالما أن ثمة من يعتقد أنه في أي حال، وبمعزل عن السياسة، يستطيع أخذ ما يريد بالقوة.

فليؤخذ الوقت، ولتتشكّل الحكومة فقط حين يتم الاعتراف بأن يوماً إنتخابياً طويلاً قد جرى في لبنان، وأن ناخبي الأكثرية (السابقة والمتجددة) اندفعوا إليه لأسباب أغلبها مذهبي وطائفي لا شك، ولكن تحت شعار سياسي واحد هو رفض سيطرة حزب الله وحلفائه (في الخارج والداخل) على البلاد، ورفض جعل 7 أيار آخر مطاف المرحلة المنصرمة.

ليس بأي ثمن إذن. وليس من دون الإقرار أيضاً، أنه إضافة الى المأزق السياسي المتفاقم والى الأدوار الخارجية المؤثرة فيه، ثمة مآزق متأتّية من شكل النظام السياسي المعتمد ومن آليات تشكيل السلطة وصنع القرار فيها، وهي سابقة للأزمة الحالية، ومرافقة لها، وصار ملحّاً البحث فيها...

زياد ماجد