Tuesday, September 29, 2009

في أصل البلاء: الاستبداد

يذكّرنا الأداء الفضائحي للزعيم الليبي في جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة بمدى الانحطاط المهيمن على المشهد السياسي العربي.
فأن يهذي "رئيس دولة"، سبق وصوله الى نيويورك ضجيجٌ حول المكان الذي قد يسعى لنصب خيمته الشهيرة فيه، لمدة ساعة وأربعين دقيقة، دون خشية تقييم لما يقول أو رصد لما يفعل، فالأمر مدعاة تأمّل في هول البلاء الذي أصاب الجماعة التي يُفترض أنه "يُمثّلها" منذ أربعين عاماً!
ذلك أن القول بالصفقات الدولية التي سمحت له بالبقاء على رأس بلاده، والتذكير بأنه دفع نقداً ونفطاً وشراءً للسلاح ثمناً لها، لا يكفيان لتفسير تربّع العقيد على عرش ليبيا منذ انقلابه في الفاتح من أيلول عام 1969. وهذا ما يحيلنا ربما الى البحث تكراراً في ما يفعله الاستبداد في المجتمعات المنكوبة به، وفي قدرته مع الوقت على تهشيمها – وهي المصابة أساساً بأعطاب النظم البطريركية والتركيبات القبلية والعشائرية – وجعلها متكيّفة معه وعاجزة عن إنتاج البدائل عنه، أو حتى وسائل الضغط الجدّية عليه.


وما يفعله الاستبداد يقوم على المزج بين "المأسسة" للأدوات القمعية والرقابية التي تدير شؤون البلاد والعباد، و"الشخصنة" المتمحور حولها كل إنجاز والمتحوّل عبرها التراجع تقدّماً. وهو يخلق عبر مزيجه المذكور مستويين من التعاطي مع المجتمع: الأول ملموس ومادي، والثاني رمزي ومعنوي، وكلاهما يودي الى المصيبة عينها...
في المستوى الأول، يؤسّس الاستبداد أجهزة مخابرات متعددة ومراكز قوى تأتمر به مباشرة، ويراقب الواحد منها الآخر، وتنشر جميعها الصمت والموت، كما تخنق المدن بوصفها مراكز الثقافة والانتاج والتنوّع.
ومع مرور الوقت، ينجح الرعب والتسلّط المباشر في تحويل عنفها الى عنف رمزي. فيكفي أن يخاف الناس من بعضهم ويراقبوا ذواتهم ويقمعوا آراءهم "لتجنّب الشرّ" حتى يستتبّ الأمر "للأشرار" ويطمئنّوا الى سيطرتهم.
وبالترافق مع ذلك، يشكّل حزب الاستبداد الحاكم (أو جماعته الأهلية)، بموازاة الأجهزة القمعية والبيروقراطية، أداة أخرى للنظام و"قاعدة اجتماعية" له. فمن خلال المنظمات و"المؤتمرات الشعبية" التي تضم الاتحادات النقابية والقطاعية كافة، ومن خلال الفروع التي تراقب المدارس والجامعات ومناهجها والإعلام العام وبرامجه، وتجيز تقديم منح التخصص وتوفير فرص العمل أو حجبها، يسيطر "النظام" على الشأن العام ومختلف مساحاته ومواقعه. فتصبح الطاعة له والولاء (ولو كذباً) قاعدة استمرار للناس وعيشهم بأمان.
أما في المستوى الثاني، فلا يظهر الحاكم قائداً لمجتمعه ونظامه فحسب، بل يتحوّل وسيلة لإقناع الناس بما "ينبغي" الاقتناع به. فيحيط شخصه بألقاب ويختلق حقائق ويلزم الجميع بتصديقها، أو بالتظاهر بتصديقها، وينشر صوره في طول البلاد وعرضها بوصفه "الأب المحبوب والزعيم المفدّى والسدّ في وجه المؤامرات". فتصبح رمزيّته المدّعاة هي ذاتها رمزية "الأمة" أو الوطن لاختصارهما بشخصه وبهامته.
بهذا، تنتفي إمكانية بروز القيم التعاقدية بين المواطنين، كما بينهم وبين "دولتهم"، ويتحوّل الحاكم الى شخص معنوي مفروض تقديسه، لا يجرؤ على المس به أو تناوله أحد، وتموت السياسة وتذبل الثقافة وتزداد أوصال المجتمع تقطّعاً، فيصبح عجزه عن إنتاج الحيويات والمبادرات شاملاً.
النتيجة: أن شخصاً مثل القذافي الذي يبدو اليوم في زيّه الفولكلوري وتصفيقة شعره وكتابه الأخضر أقرب الى التهريج منه الى أي شيء آخر، يتصرّف منذ عقود بمليارات الدولارات، وبحياة الناس إن شاء، ويعيّن نفسه ناقداً أدبياً وروائياً (على طريقة صدّام) ومصمّم سيارات ومفكّراً وحاملاً لواء العالم الثالث بأسره. ويصير طبعاً فرجة في المحافل الدولية يثير السخرية، والسخط، والحزن...
زياد ماجد

Tuesday, September 22, 2009

"حلّو عنُن"

يمكن التوقّف عند الكثير من الأمور في الكلمة المتلفزة للسيد حسن نصر الله في "يوم القدس". ويمكن التعليق على تأكيده القدرة "على دخول بيت المقدس بالباصات والفانات" ما أن يُباد نصف الجيش الإسرائيلي إن حاول دخول لبنان. ويمكن أيضاً الالتفات الى تفسيره أسباب فشل المفاوضات السورية الاسرائيلية عام 2000 وما إذا كانت الأمتار المحيطة ببحيرة طبريا هي السبب الفعلي أم لا، كما يمكن الخوض في نقاش حول تقييمه للأوضاع الإيرانية الداخلية التي ادّعى خبرة في فهمها ومعرفتها.
لكن ما نريد التعقيب عليه لا علاقة له بكل ذلك. هو ببساطة مرتبط بما كرّره السيّد نصر الله من استخدام لعبارة "حلّو عَنُن" في معرض مخاطبته من لا يساندون "المقاومة" (أي حزب الله) في لبنان.
فقد اعتبر، مشكوراً، أن الناس أحرارٌ في عدم دعم حزبه (واستطراداً نظامي طهران ودمشق إذ أعلن تشرّفه بالانتماء الى محورهما)، لكن عليهم بالمقابل أن "يحلّوا عنه"، أي أن يتركوه وشأنه.
أما شأنه، فليس سوى التصرّف بقراري الحرب والسلم في لبنان (ولو من موقع الدفاع عن النفس)، وبقراري الاستقرار والدمار (الخاصين بالناس إياهم المفترض أن "يحلّوا عنه")، وطبعاً وفقاً لتطوّر الأمور في المنطقة ككل.

وقضية "الحلّ عن" حزب الله هذه، تعكس أمرين.
الأول، ثقافة تناقض في الجوهر فلسفة التعاقد السياسي والاجتماعي في بلد ما، وتناقض بالكامل فلسفة الدولة ومعاني سيادتها في أي بلد بالمطلق.
ذلك أن كل تعاقد يتطلب تشاركاً في مختلف الأمور، موافقةً أو رفضاً وسعياً للتغيير أو التعديل. وفي كل الحالات لا مجال لترك أحد وحاله. كما أن أي وجود لدولة يقتضي سلطة لها ودوراً لا يمكن التعاطي معه في أبسط الأمور على قاعدة "الحلّ عن". فكيف إذا كان الموضوع هو الأخطر على الإطلاق، أي الصراع المسلح!
والأمر الثاني مرتبط بمناقضة "الديمقراطية التوافقية" التي لا ينفكّ السيد نصر الله ومسؤولو حزبه يشدّدون عليها هذه الأيام. وهي تعني بالنسبة إليهم مشاركتهم في كل أطر صنع القرار في المؤسسات، وحصولهم على "الثلث الضامن" في السلطة التنفيذية. لكنهم، حين يصل الأمر الى السياسة الخارجية أو شؤون الحرب والسلاح، ينسون أن ثمة ديمقراطية وأن ثمة توافقاً، ويعلنون أن "المقاومة" وحدها تخطّط وتقرّر وتنفّذ، وما على الباقين (ولو كانوا قسماً كبيراً جداً من اللبنانيين) إلا أن ينصاعوا لخياراتها أو يتركوها وحالها.
هو الانتقاء إذن، وهو يذكّر بانتقاءات أخرى قام بها السيد منذ فترة، متناقضة في ما بينها، ومناقضة أيضاً للديمقراطية التوافقية التي "يتمسّك" بها (من الحديث عن أكثرية شعبية مقابل الأكثرية البرلمانية بعد خسارته الانتخابات، وما في هذا من مخالفة لأبسط قواعد الديمقراطية التوافقية - وكل الديمقراطيات الانتدابية - الى الحديث عن حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية شرط إقامة انتخابات جديدة، وكان ذلك إيام تركيزه على "الأكثرية الوهمية" وعلى "السلطة غير الشرعية" قبل أعوام قليلة)...
في أي حال، لا تبدو الفائدة كبيرة من المساجلة مع مقولات تبسيطية تنطلق من فهم خاطئ للمفاهيم والمصطلحات. ومن الأفضل ربما الاكتفاء بالتذكير بأن لبنان المنكوب بجغرافية سياسية تمارس الضغط الدائم عليه، محكوم بصغر حجمه وبتداخل ديموغرافيته الطوائفية وبتجاور قواه المجتمعية والسياسية المختلفة. وهذه وتلك لا تبدو مهيّئة "لتحلّ عن بعضها" أو "تفلّ" أو تترك أحداً يتصرّف بمصائرها وحيداً. ومن الضروري، بالتالي، البحث عن سبل أخرى (سلمية طبعاً) لتسوية الخلافات حين تنشب بينها...
زياد ماجد

Monday, September 14, 2009

ليس بأي ثمن

لا شك أن القوام السياسي الوطني لا يستقيم من دون تشكيل حكومة، وأن حضور القوى السياسية-الطائفية الكبرى في السلطة التنفيذية ضروري طالما أن فلسفة النظام كما توازن القوى الداخلي والإقليمي لا يتيحان تشكيل الحكومة أحادياً من قبل الأكثرية الفائزة في الانتخابات النيابية.

ولا شك أيضاً أن التحدّيات الأمنية والقانونية والاقتصادية التي يواجهها لبنان نتيجة التهديدات الخارجية، ونتيجة الهشاشة الداخلية والخلافات حول الخيارات الكبرى في البلاد تتطلّب حواراً جدّياً وبحثاً داخل المؤسسات حول سبل الحد من الاحتقان في الشارع والابتعاد (ولو مرحلياً!) عن حملات التخوين بانتظار التطورات الإقليمية وما ستحمله من انفراجات أو انفجارات.

وهذا كله يتطلّب تشكيل مجلس وزراء وإعادة الحياة الى المجلس النيابي، والعمل ولو بالحدّ الأدنى على تحويل "الستاتوكو" القائم من ستاتوكو متوتّر الى ستاتوكو هادئ يتيح بعض الحركة الاقتصادية من جهة، ويحدّ (نسبياً) من الإضرار الأمنية المتوقّعة إن تدهورت الأمور لاحقاً في المنطقة من جهة ثانية...

لكن تشكيل الحكومة، بما يرمز إليه في تفاصيله وفي الأحجام المعتمدة فيه، ينبغي ألا يكون مادة ابتزاز تلغي بالكامل نتائج الانتخابات النيابية وتطيح بحق الفائزين في ترجيح الموقف في السلطة التنفيذية، رغم الشراكة والتوافقية الطوائفية "الإلزامية"، خاصة وأن رئاسة المجلس النيابي قد آلت الى قطب من الأقلية يشكّل أحد طرفي الثنائية الممثلة الأكثرية الشيعية (والخاسرة الانتخابات على الصعيد الوطني).

بهذا المعنى، ينبغي ألا يبقى هاجس تشكيل الحكومة – بعد تعذّره في التجربة السابقة رغم مفاوضات 70 يوماً – ضاغطاً على الأكثرية حكراً، يستدعي التنازلات المستمرة، طالما أن ثمة من يعتقد أنه في أي حال، وبمعزل عن السياسة، يستطيع أخذ ما يريد بالقوة.

فليؤخذ الوقت، ولتتشكّل الحكومة فقط حين يتم الاعتراف بأن يوماً إنتخابياً طويلاً قد جرى في لبنان، وأن ناخبي الأكثرية (السابقة والمتجددة) اندفعوا إليه لأسباب أغلبها مذهبي وطائفي لا شك، ولكن تحت شعار سياسي واحد هو رفض سيطرة حزب الله وحلفائه (في الخارج والداخل) على البلاد، ورفض جعل 7 أيار آخر مطاف المرحلة المنصرمة.

ليس بأي ثمن إذن. وليس من دون الإقرار أيضاً، أنه إضافة الى المأزق السياسي المتفاقم والى الأدوار الخارجية المؤثرة فيه، ثمة مآزق متأتّية من شكل النظام السياسي المعتمد ومن آليات تشكيل السلطة وصنع القرار فيها، وهي سابقة للأزمة الحالية، ومرافقة لها، وصار ملحّاً البحث فيها...

زياد ماجد

Tuesday, September 8, 2009

مَن للنظام السوري في لبنان؟

تظهر التطوّرات الراهنة أن النظام السوري يستطيع استخدام أوراق إقليمية عدة لتخفيف الضغط الدولي عليه، لكنه يفتقر الى أي قاعدة شعبية في الدول التي يجد فيها هكذا أوراق، مما يجعله عاجزاً عن الحسم في ملفاتها. وهذا يدفعه، من خلال العودة الى ما أسميناه في مقال سابق "بسياسات الأب"، الى تقديم العروض المتناقضة لكسب الوقت ولكن من دون قدرة فعلية على إتمام الصفقات.
ذلك أن "كفاءة" النظام في توتير الوضع العراقي والسماح بتسلل "الجهاديين" وبقايا البعثيين الذين يحتضنهم الى بغداد لا تترافق مع ولاء له داخل العراق ترفعه فئات ضيقة أو واسعة من العراقيين وتفاوض خصومها على أساسه، واستضافته قيادة حماس وبعض الفصائل الفلسطينية في دمشق وتأثيره فيها لا تجعل منه قبلة أهل غزة يبايعونه قبل بحثهم في أي شأن داخلي أو إسرائيلي؛ والأهم، أن اختراقه مخابراتياً للكثير من المؤسسات اللبنانية التي أدارها لعقود وقدرته على الضغط الأمني لا تترافق مع غرام شعبي فيه، ولا مع تسليم مفاتيح الحل والربط له حتى في الأوساط التي تؤمّن له اليوم الغطاء وتسمح له بالحضور السياسي المباشر على الساحة الوطنية.
وقد أظهرت الانتخابات النيابية الأخيرة أن أياً من حلفاء النظام السوري لا يستطيع الفوز بأي مقعد في لبنان خارج المناطق ذات الأكثرية الشيعية. وحتى في تلك المناطق، فيجب أن يقبل حزب الله بضمّه، وهذا يتطلّب موافقة إيرانية مستندة الى مستوى التحالف مع سوريا وليس الى تفويضها الشأن اللبناني أو الإقرار بحضورها "الجماهيري" شيعياً.
وإن كانت زغرتا تناقض ما ذكرناه (وما أثبتته على الأرض نتائج راشيا والبقاعين الغربي والأوسط ثم الجبل الجنوبي فبيروت وطرابلس وعكار والمنية والضنية وسائر الشمال حيث لم يفز واحد أحد من مرشحي دمشق)، فإن نسب الأمور في تلك المنطقة الى العلاقة بسوريا تبسيط يلغي فهم الحيثيات المحلية وطبيعة الزعامات العائلية. وحتى في المناطق حيث فازت اللوائح العونية بمعظم المقاعد، فإن الخرق الذي حصل فيها كان على حساب المرشح الأقرب الى سوريا (أي القومي في المتن)!

وهذا الضعف الشعبي هو على الأرجح ما يفسّر بعض المشاهد اللبنانية هذه الأيام، ويبرّر عدم وقوع دمشق - عند الحديث عن عمل متجدّد للمحقّقين الدوليين في بيروت مؤخراً - على أي سياسي لبناني وازن يهاجم المحكمة الدولية بالنيابة عنها. فحزب الله يتعاطى مع الموضوع منذ تقرير "دير شبيغل" بحذر وبتنسيق مع طهران حصراً، والعماد عون يدير معركة حجمه في السلطة ولا يريد التعاطي في ما قد يؤذي معركته، والرئيس بري يؤاثر الترقب والصمت. بذلك، لا يبقى غير ضابط سابق (مشتبه به) وسياسيين ثانويين ليشتموا المحكمة ويرفعوا الهجاء والصراخ في وجهها. المفارقة أن الضابط السابق كان يتوعّد قبل الانتخابات وقبل هزيمة سوريا وحلفائها في 7 حزيران باستلام وزارة العدل وإدارة مختلف الملفات (بما فيها طبعاً ملف المحكمة)، فصار جلّ ما يطلبه اليوم أن يحاسب سعد الحريري بعض القضاة الذين يتظلّم من سجنهم له!
غير أنه من الضروري التنبّه الى أن الضعف الشعبي لا يعني بأي شكل ضعفاً لإمكانيات إثارة الشغب وإيقاع الضرر والتخريب لاستجلاب العروض أو تقديمها.
فالإرهاب والتعطيل من أسهل الأمور، أما الفرض والتسيير فهما من المؤشرات الى مواطن النفوذ الحقيقي. وهذا عادة ما لا يستطيعه إلا القادر على بتّ الصفقات وليس الداخل فيها مضارباً أو لاهثاً للعودة الى "تكتيكات الماضي" بأكثر رموز هذا الماضي بهتاناً...
زياد ماجد

Friday, September 4, 2009

في المعضلة اللبنانية

يبدو جلياً من تاريخ الأزمات في لبنان، في أعوام 1958 و1969 و1975 ومنذ 2005 حتى اليوم، أن النظام السياسي المستند الى بعض مبادئ الديمقراطية التوافقية لم يفلح في لجم التوترات ومنعها من التحوّل الى صدامات سياسية وأحياناً حروب. كما أن الفلسفة الناظمة له والقائمة على أساس البحث عن المشترك وبناء السلطة بالتحالفات الموسعة لتمثيل المكّونات العامودية للمجتمع لم تتمكّن من استيعاب الجميع أو طمأنتهم. وصيغة التوزيع الطائفي للمناصب في الدولة لم ترض الجماعات اللبنانية المختلفة التي راحت مع كل تبدّل تبحث عن تغييرها وعن تطبيق ما تعتبره أكثر تناسباً مع توازن القوى الطائفي المستجدّ (والمتحرّك).

يضاف الى ذلك، أن التأثير السياسي الضاغط للمحيط الإقليمي على اللبنانيين وعلى القسمة بينهم وعدم تمكّن هؤلاء من بلورة موقف موحّد تجاه الصراعات والخلافات الدولية والعربية وأشكال الانخراط فيها أو النأي عنها، لا بل اندفاع فئات عديدة منهم الى الانخراط في محاور متناحرة، أتاح للصراعات السياسية أن تتسلّل الى مؤسسات الدولة نفسها وتشّلها خلال الأزمات نتيجة تعدّد الرؤوس في النظام وانتمائها غالباً الى المحورين الخارجيّين المتنابذين. وهذا ما عطّل الحكم ونقل الاحتقان في أكثر من لحظة مفصلية الى الشارع.
ولعل متانة المعادلات الطائفية الحاكمة والتي لم تتعدّل سوى الحصص فيها منذ بدء تطبيقها عام 1943 وحتى اتفاق الطائف عام 1989 (ثم موجبات اتفاق الدوحة عام 2008)، وهي متانة تسبّب مناعة تجاه المحاولات الإصلاحية العميقة وتحشد دفاعاً عنها كتلاً طائفية كبيرة لا تُعنى سوى بما ستناله من مواقع وتحصر بالتالي هواجسها ومساعيها التعديلية بلعبة الأحجام في السلطة، لعل هذه المتانة هي ما يصعّب شروط تطور النظام السياسي التوافقي ويمنع بعض جوانبه من النجاح.



لذلك تبدو علامات الثبات في النظام علامات ضعف أكثر منها علامات قوة. لأن الثبات هو أقرب الى التمسّك بمؤدّيات النظام والحصص التي يؤمّنها في مؤسساته لممثّلي الطوائف، أكثر منه قرباً الى فلسفة التوافق التي تحاول توزيع مسؤوليات على الممثّلين هؤلاء لضمان استمرار تعاقدهم الوطني. كما أن التصاق الأكثريات الطائفية بنخبها في لحظات التأزّم، ولو أنه آلية دفاع عن هوية جماعية وعن مصالح يتوهّم أبناء طائفة امتلاكهم بشرطهم الطائفي لها، يجعل كل تنازل يمكن الإقدام عليه خلال البحث عن تسوية هزيمة جماعية للطائفة المذكورة وليس لنخبة معينة فيها. مما يجعل الحيلولة دون وقوع الهزيمة المفترضة كما الاستسلام لها مُنطلقين على حد سواء لتعبئة وحشد واحتمال صدام مع الطائفة الأخرى الصاعدة أو مع التحالف الطائفي المضاد. أكثر من ذلك، يجعل هذا الأمر النخب الطائفية نفسها قادرة على التكيف مع المتغيرات وقادرة على الالتحاق بأي مكوّن صاعد في طائفتها إن تمكّن من شق طريقه بطرق سلمية أو عنفية كما جرى خلال الحرب وفصولها المتتالية.

هل هذا يعني أن ثمة بديلاً عن التطبيقات الراهنة للنظام السياسي "التوافقي" ينبغي السير به؟
لا يبدو الجواب إيجابياً لأن تخيّل البديل ليس بسهولة انتقاد القائم، ولأن التغيير في ظروف احتقان ومخاوف ديمغرافية قد يكون أخطر من الإبقاء على السائد. وهذه معضلة الحالة اللبنانية منذ عقود.
على أنها معضلة قابلة للفكفكة يوماً ما، إن توفّرت الظروف والإرادة لذلك، وهذا شأن آخر...

زياد ماجد

Tuesday, September 1, 2009

فزّاعة التوطين


تحتاج كل تعبئة، خاصة إن كانت طائفية، الى نظرية مؤامرة تغذّيها وتبرّرها وتسمح لها بخوض معاركها.
ويبدو "التوطين" هذه الأيام "المؤامرة" الأكثر رواجاً وتوظيفاً للتعبئة ولخوض بعض الصراعات الداخلية.
فالعماد ميشال عون ومريدوه لا يتركون مناسبة من دون الإشارة الى هذه المؤامرة والى تصدّيهم لها، وهو التصدّي الذي يتسبّب بحسبهم بحرب كونية ضدهم. حتى أن أحدهم ذهب مرة الى حد "اكتشاف" أن سلاح حزب الله هو لمنع التوطين وأن المطالبة بنزع هذا السلاح هي مطالبة بالتوطين…
غير أن القضية لا تقتصر على البيئة السياسية العونية، ولو بدت أبرز اختصاصات الناطقين بلسانها. فثمة في 14 آذار من يهجس بالموضوع أيضاً مزايدةً على العونيين أو انتماءً الى ذاكرة السنوات الأولى من الحرب الأهلية الأليمة. وثمة في البيئة الحزب إلهية – الأملية – القومية (الزاعمة على الدوام مناصرة القضية الفلسطينية) من يحذّر من الأمر نفسه ويربطه بالديون الخارجية المستحقة على لبنان وبشروط الدائنين والهيئات الدولية المشاركة جميعها في "المؤامرة".
لكننا لا نقع عند أحد من كل هؤلاء على شرح لماهية التوطين ولشروطه وليومياته، وذلك بعد انقضاء 61 عاماً على وصول اللاجئين الفلسطينيين الى لبنان وإقامتهم فوق أراضيه.


فإن كان التوطين يعني منح الجنسية لحوالي 350 ألف فلسطيني (مع ما يعنيه الأمر ديمغرافياً-مذهبياً، وهنا ربما جوهر الموضوع)، فلا أحد يمكنه أن يفرض ذلك لأسباب عديدة مرتبطة بآلية اتخاذ القرارات في المؤسسات اللبنانية وضروة التوافق شبه العام فيها، وهو ما لا يمكن أن يحصل في موضوع مشابه.
وإن كان التوطين يعني منح الفلسطينيين حقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية، فهذا أقل ما ينبغي فعله لتنظيم شؤون لاجئين يعيشون في لبنان إنطلاقاً من الاتفاقيات الدولية ومن شرعة حقوق الانسان. ويمكن اتخاذ إجراءات تقوم على منح الفلسطينيين إقامات تخوّلهم العمل والتنقّل والتملّك ضمن الحدود القانونية السارية، من دون أن يعني ذلك إعطاءهم الجنسية (وبالتالي تغيير التركيبة الديمغرافية والانتخابية اللبنانية) أو التأثير على قرارهم بالعودة الى فلسطين في إطار حل في المنطقة (لا تبدو تباشيره قريبة في أي حال).
هذا مع العلم أن كثراً من الفلسطينيين يتمنّون الهجرة من لبنان نحو بلاد تتيح ظروفاً معيشية أفضل إذا تعذّرت عودتهم الى بلادهم.
أمّا إن كان التوطين شعاراً طائفياً وعنصرياً يُرفع للتغطية على المشكلة الفعلية التي يفترض أن تُثار ضمن مقاربة شاملة للمسألة الفلسطينية في لبنان، وهي مشكلة السلاح الفلسطيني، فالأمر يستحق بعض الملاحظات.
ذلك أن معظم من يتحدث عن التوطين وعن أشباحه، لا يشرح لماذا لا يصرّ على جمع السلاح الفلسطيني الموجود خارج المخيمات، في الناعمة وعلى الحدود اللبنانية السورية بقاعاً. كما أنه لا يعرض لخطّته لمنع التوطين ولمعالجة مشاكل المخيّمات ومنع المطلوبين من التسلّل إليها وتحويلها بؤراً أمنية تهدّد أبناءها وجيرانهم.
بهذا المعنى، يبدو التحذير من التوطين بحثاً عن تعبئة ضد لاجئين وجدوا أنفسهم منذ ستة عقود في لبنان بعد أن هُجّروا من أرضهم، ويبدو في الوقت عينه تغطية لسلاح يحمله البعض منهم لأسباب غير مبرّرة. والأهم، صار التحذير وكأنه تبرير لسلاح آخر، لبناني أهلي، إن من خلال ربطه بمقاومة التوطين، أو بمقاومة المتؤامرين لفرضه.
وبهذا المعنى أيضاً، تبدو الشرعية وسيادة الدولة اللبنانية على أراضيها، كما تبدو حقوق الإنسان وكرامات اللاجئين وعيشهم، شؤوناً لا تعني "مقاومي" التوطين الافتراضي ولا تهمّهم...

زياد ماجد