Saturday, March 27, 2021

الإسلامو-غوشيست ومأزق العنصريّين في فرنسا

تتردّد في السجالات السياسية والإعلامية المحمومة في فرنسا منذ سنواتٍ مقولاتٌ وعبارات مهجوسة بأسئلة الهوية والاندماج والهجرة وما يُسمّى بالثقافة "الانفصالية" وبالقيم المناقضة لقيم الجمهورية والعلمنة، التي يزعمُ بعض المسؤولين وكثرة من الحزبيّين من الموالين أو المعارضين أنها سمات جماعات واسعة من المسلمين الفرنسيين أو المقيمين في فرنسا.

وإذ يُعطف على السجالات هذه أو يُبنى على تبعاتها اتّهام أمنيّ يربط الإرهاب بالسمات المذكورة كلّ ما وقع اعتداء منظّم (كما حصل بعد المقتلة الإرهابية التي استهدفت صحافيي مجلّة "شارلي إبدو") أو عمل همجيّ فردي (كما حصل عند قتل مدرّس التاريخ صامويل باتي ومصلّيتين في كنيسة)، يجري في الوقت نفسه ابتزاز رافضي العنصرية والتنميط أو الباحثين عن جذور اجتماعية وبسيكولوجية واقتصادية لتفسير السلوكيّات المأزومة، انعزاليةً كانت أو إجرامية قاتلة، عبر اتّهامهم بالسعي لتبرير "الإرهاب"، أو إطلاق مسمّيات ضدّهم لحبسهم فيها. ومن بين هذه المسمّيات، برز مؤخراً مسمّى "الإسلامو-غوشيست" أو "اليساروي الإسلاموي"، أو اليساري المدافع عن المسلمين (والإسلاميين)، الذي أطلقه وزير التربية ومعه سياسيّون وإعلاميّون وبضعة أكاديميين، على المثقّفين وعلى الصروح الجامعية الفرنسية التي تحوّلت كلّياتُ العلوم الاجتماعية والآداب المقارنة فيها، بحسبهم، الى معاقل لمناهج "مستوردة" من الثقافة الأنكلوساكسونية حيث التركيز على دراسات العرق والتعدد الثقافي "بات دافعاً لكراهية البيض". أكثر من ذلك، ذهب وزير التربية ومناصروه الى حدّ المطالبة برقابة على الدراسات "البوست-كولونيالية" بوصفها تحريضاً على ماضي فرنسا الاستعماري بما يعزّز التطرّف الإسلامي كما قالوا ويبرّر "التوحّش" في بعض ضواحي المدن (والعبارة لوزير الداخلية الفرنسي) حيث يصطدم دورياً شبّانٌ من أصول مهاجرة (مغاربية وأفريقية بخاصة) بعناصر من الشرطة والدرك.

Wednesday, March 17, 2021

سوريا، الصورة ونقيضها، المشهد وخلفيّته

الى فائق المير، أبو علي، في "غيبته الكبرى"

انقضت عشر سنوات منذ ذلك اليوم الذي خرجت فيه أجساد وأصوات وآمال الى ما صار مطحنةً لعظامها ومقتلةً بلا قبور لمئات آلاف البشر وابتساماتهم في أرض حكمها الموت والاختناق وبسالة مقاومتهما لعقود طويلة.

انقضت عشر سنوات من عمر مذبحةٍ متواصلة غيّرت عالماً وعلاقاتٍ وأطباعاً وبدّلت صلةً بالوقت والبديهيات، وفعلت فعلها في تظهير وقائع حول أفرادٍ وجماعات ومؤسسات وتيارات سياسية وفكرية، وجعلت كثراً منّا يجهدون لإكمال أيّام "عادية" استهلّتها صباحاً صورُ برميل يسحق طفلاً أو جروح جثّة حفرت فيها سكّين سجّان أو طلقات قنّاص.

انقضت عشر سنوات إذاً، يمكن إيجاز بعض ملامحها وملاحمها بثنائيات بصريّة متدافعة أو متنابذة، على مذهب جان لوك غودار إذ يقيم المقارنة بين المشهد الظاهر والمشهد المحجوب، وكأن الواحد هو "نيغاتيف" الآخر ومكمّله ولو من باب التضاد أو الطرد من مسرح المرئيّ.

ولعلّ في تتبّع رحلة الأجساد السورية بين مشاهد الحياة والموت، أو الموت والحياة، طيلة السنوات العشر المنقضية، ما يوفّر للمقارنة الغودارية هذه أقصى مدلولاتها.

Sunday, March 7, 2021

عن بكركي والمعارضات اللبنانية

أثارت مبادرة البطريركية المارونية والحشد الحزبي الذي رافق الإعلان الرسمي عنها في بكركي في  27 شباط/فبراير المنصرم سجالاً سياسياً هو الأوّل من نوعه في لبنان، منذ محاصرة الثورة وتراجع التحرّكات الشعبية وانهيار الأحوال المعيشية وانتشار كورونا وانفجار المرفأ.

فالمبادرة، ظهّرت ببنودها بعضاً من أبرز عناصر الانقسام الداخلي اللبناني الراهن، ونبّهت في ما غاب عنها الى بعضه الآخر. وهي إذ أشارت بوضوح الى مسألة السلاح غير الشرعي، أي سلاح حزب الله، وطالبت بمؤتمر دولي حول لبنان يثبّت كيانيّته وصيغة حكمه ويدعم جيشه ليمسك وحيداً بقرارات الحرب والسلم ويمنع "توطين" الفلسطينيين فيه ويُتيح "عودة آمنة" للاجئين السوريين المقيمين على أراضيه ويتّخذ الإجراءات لتنفيذ جميع القرارات الدولية المتعلّقة به، ركّزت على ضرورة تبنّي الدولة اللبنانية للحياد في سياستها الخارجية بعيداً عن المحاور والتحالفات الإقليمية والدولية، وأعلنت رفضاً لما تعدّه انقلاباً يشهده البلد وتتعطّل فيه الدولة وينعدم بسببه الأمان.

Friday, March 5, 2021

عن الكتابة وكثافة المعنى والمجهول الرهيب

في 9 كانون الثاني/ديسمبر 2013، اختطفت مجموعة مسلّحة المحامية والكاتبة رزان زيتونة والناشط السياسي وائل حمادة (زوج رزان) والمحامي والشاعر ناظم حمادي، في مدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية. واختطفت معهم سميرة الخليل، السجينة السياسية السابقة والعاملة في دوما الى جانب رزان في التوثيق الحقوقي وفي برامج دعم النساء في تلك المنطقة المنكوبة والمحاصرة. 

لم يكن عمل الاختطافِ هذا بالحدث التراجيدي "العادي" في سياق أحداث تراجيدية كثيرة تراكمت وتزاحمت وأنست واحدتها سابقاتها في سنوات الثورة ثم الحرب السورية العشر الأخيرة. فموقع الخطف والهويّة المرجّحة للقائمين به وما يمثّله المخطوفون الأربعة جسّدت جمعيها جوانب استثنائية الفظاعة في مأساة سوريا.

Thursday, March 4, 2021

المبادرة الفرنسية في لبنان: حل معلَّق بانتظار التفاوض الأميركي-الإيراني

 تحاول هذه  الورقة المنشورة في "مركز الجزيرة للدراسات" الوقوف عند ما آلت إليه المبادرة الفرنسية في لبنان اليوم، وما يمكن أن تؤول إليه التطوّرات في المقبل من الأيام.

ملخّص تنفيذي

مرّ أكثر من ستة أشهر على إعلان الرئاسة الفرنسية "مبادرة إنقاذية" تجاه لبنان، عقب انفجار المرفأ في بيروت في 4 آب/أغسطس 2021 وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى العاصمة اللبنانية ودعوته الأفرقاء المختلفين الى تشكيل "حكومة مُهمّة وطنية" تُباشر سلسلة إصلاحات اقتصادية وسياسية وإدارية، كشرط لتوفير دعم مالي دولي تحشده فرنسا.

وكان ماكرون قد حدّد "مهلة شهر" للمسؤولين اللبنانيين لتشكيل الحكومة المنشودة والبدء بالإصلاحات، مراهناً على انفتاح باريس على جميع الأطراف الداخليّين والإقليميين المؤثّرين، وعلى قدرتها على التدخّل الفعّال في مرحلة انكفاء أميركي تسبق الانتخابات الرئاسية وانتظار إيراني لنتائج تلك الانتخابات وتراجع سعودي لانشغال بالحرب اليمنية والخلافات الخليجية ومسائل توريث السلطة.

إلّا أن المهلة الفرنسية انقضت، والضغوط والوساطات الباريسية فشلت حتى 20 شباط/فبراير 2021 في إحداث خرق في جدار الأزمة السياسية، رغم تكليف رئيس حكومة اعتذر لاحقاً عن التشكيل وتكليف رئيس ثانٍ ما زال يفاوض داخلياً وإقليمياً بلا تقدّم حاسم. ذلك أن الشروط السياسية والشروط المضادة والخلاف حول الأحجام والحصص بين القوى السياسية الطائفية الرئيسية في لبنان معطوفاً على ما بدا رغبة إيرانية في التريّث ترجمها حزب الله بترك الساحة "لاشتباكات" ومفاوضات لا تنتهي بين حليفيه المتنابذَين، رئيس الجمهورية ميشال عون (وتياره) ورئيس مجلس النواب نبيه برّي من جهة، وخصمه الذي يتمسّك به رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري من جهة ثانية، جميعها تحول دون تأليف حكومة جديدة وتحول أيضاً دون اتّخاذ حكومة تصريف الأعمال الإجراءات المطلوبة دولياً لمساعدة لبنان.

بموازاة ذلك، تستمر الأوضاع الاقتصادية والمالية بالتردّي ومعها أحوال أكثرية اللبنانيين المُفقرين، وتُفاقم تداعيات جائحة كورونا من مفاعيل الأزمة وانعكاساتها على الفئات المتدنّية الدخل. كما تستمر الأوضاع الأمنية بالتوتّر وتتصاعد ممارسات القمع التي تعتمدها أجهزة الدولة بحقّ المعترضين. ووقع في 4 شباط/فبراير تطوّر خطير تمثّل في اغتيال الناشط السياسي والمثقف المعارض لحزب الله لقمان سليم، في عملية ولّدت خشية من عودة مسلسل الاغتيالات الذي شهده لبنان على وقع أزماته السياسية بين العامين 2004 و2013.

يُفضي كلّ هذا الى الاستنتاج بصعوبة حدوث انفراجات سياسية كبرى، حتى لو تشكّلت حكومة، بسبب المراوحة الاقليمية في انتظار بدء المفاوضات الأميركية الايرانية، وبسبب خصائص النظام اللبناني القليل المرونة لجهة شروط توافقيّته التي تتيح للأطراف القوية تعطيله ولجهة ثقافة نخبته السياسية الحاكمة ومصالحها وحماية حزب الله لها وغياب الأفق التغييري أو توازن القوى القادر على إزاحتها.

وهذا يعني أن المبادرة الفرنسية التي لم يُعلن الرئيس ماكرون بعدُ تراجعه عنها فشلت في تحقيق ما صبت إليه، ولو أن اتّصالات جديدة تشي بمحاولة باريس تفعيلها.