Thursday, March 4, 2021

المبادرة الفرنسية في لبنان: حل معلَّق بانتظار التفاوض الأميركي-الإيراني

 تحاول هذه  الورقة المنشورة في "مركز الجزيرة للدراسات" الوقوف عند ما آلت إليه المبادرة الفرنسية في لبنان اليوم، وما يمكن أن تؤول إليه التطوّرات في المقبل من الأيام.

ملخّص تنفيذي

مرّ أكثر من ستة أشهر على إعلان الرئاسة الفرنسية "مبادرة إنقاذية" تجاه لبنان، عقب انفجار المرفأ في بيروت في 4 آب/أغسطس 2021 وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى العاصمة اللبنانية ودعوته الأفرقاء المختلفين الى تشكيل "حكومة مُهمّة وطنية" تُباشر سلسلة إصلاحات اقتصادية وسياسية وإدارية، كشرط لتوفير دعم مالي دولي تحشده فرنسا.

وكان ماكرون قد حدّد "مهلة شهر" للمسؤولين اللبنانيين لتشكيل الحكومة المنشودة والبدء بالإصلاحات، مراهناً على انفتاح باريس على جميع الأطراف الداخليّين والإقليميين المؤثّرين، وعلى قدرتها على التدخّل الفعّال في مرحلة انكفاء أميركي تسبق الانتخابات الرئاسية وانتظار إيراني لنتائج تلك الانتخابات وتراجع سعودي لانشغال بالحرب اليمنية والخلافات الخليجية ومسائل توريث السلطة.

إلّا أن المهلة الفرنسية انقضت، والضغوط والوساطات الباريسية فشلت حتى 20 شباط/فبراير 2021 في إحداث خرق في جدار الأزمة السياسية، رغم تكليف رئيس حكومة اعتذر لاحقاً عن التشكيل وتكليف رئيس ثانٍ ما زال يفاوض داخلياً وإقليمياً بلا تقدّم حاسم. ذلك أن الشروط السياسية والشروط المضادة والخلاف حول الأحجام والحصص بين القوى السياسية الطائفية الرئيسية في لبنان معطوفاً على ما بدا رغبة إيرانية في التريّث ترجمها حزب الله بترك الساحة "لاشتباكات" ومفاوضات لا تنتهي بين حليفيه المتنابذَين، رئيس الجمهورية ميشال عون (وتياره) ورئيس مجلس النواب نبيه برّي من جهة، وخصمه الذي يتمسّك به رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري من جهة ثانية، جميعها تحول دون تأليف حكومة جديدة وتحول أيضاً دون اتّخاذ حكومة تصريف الأعمال الإجراءات المطلوبة دولياً لمساعدة لبنان.

بموازاة ذلك، تستمر الأوضاع الاقتصادية والمالية بالتردّي ومعها أحوال أكثرية اللبنانيين المُفقرين، وتُفاقم تداعيات جائحة كورونا من مفاعيل الأزمة وانعكاساتها على الفئات المتدنّية الدخل. كما تستمر الأوضاع الأمنية بالتوتّر وتتصاعد ممارسات القمع التي تعتمدها أجهزة الدولة بحقّ المعترضين. ووقع في 4 شباط/فبراير تطوّر خطير تمثّل في اغتيال الناشط السياسي والمثقف المعارض لحزب الله لقمان سليم، في عملية ولّدت خشية من عودة مسلسل الاغتيالات الذي شهده لبنان على وقع أزماته السياسية بين العامين 2004 و2013.

يُفضي كلّ هذا الى الاستنتاج بصعوبة حدوث انفراجات سياسية كبرى، حتى لو تشكّلت حكومة، بسبب المراوحة الاقليمية في انتظار بدء المفاوضات الأميركية الايرانية، وبسبب خصائص النظام اللبناني القليل المرونة لجهة شروط توافقيّته التي تتيح للأطراف القوية تعطيله ولجهة ثقافة نخبته السياسية الحاكمة ومصالحها وحماية حزب الله لها وغياب الأفق التغييري أو توازن القوى القادر على إزاحتها.

وهذا يعني أن المبادرة الفرنسية التي لم يُعلن الرئيس ماكرون بعدُ تراجعه عنها فشلت في تحقيق ما صبت إليه، ولو أن اتّصالات جديدة تشي بمحاولة باريس تفعيلها.

مقدّمة

أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في شهر آب/أغسطس 2020 مبادرة سياسية تجاه لبنان تلت الانفجار الضخم الذي دمّر مرفأ بيروت وعدداً من أحياء العاصمة، قاتلاً أكثر من 200 شخص وجارحاً ومهجّراً عشرات الآلاف ومفاقماً الأحوال المأساوية في البلد المفلس مالياً والمنهار اقتصاده. وزار ماكرون لبنان مرّتين وأرسل مستشاريه للقاء المسؤولين اللبنانيين، ولم يُوفّق رغم ذلك في دفع الأخيرين الى تشكيل حكومة إنقاذ[1] واتّخاذ إجراءات هي الشرط الأساسي لحشد دعم مالي دولي وبدء توفير المبالغ التي سبق وجمعها مؤتمر "سيدر" المنعقد العام 2018 في باريس[2].

عن المبادرة الفرنسية وظروفها الإقليمية والدولية

انطلقت المبادرة الفرنسية أو "عملية إنقاذ لبنان" كما أسماها قصر الإليزيه على أساس أن لباريس دوراً تاريخياً في البلد الصغير الذي ساهمت في تأسيسه وصياغة نظامه قبل قرن من الزمن، وأن عليها مواصلته في ظرف دقيق لبنانياً وإقليمياً. كما انطلقت استناداً الى تشابك علاقات ثقافية وتعليمية واقتصادية وسياسية بين بيروت وباريس عرفت الكثير من المحطات، خاصة في عهدي الرئيسين فرنسوا ميتران وجاك شيراك، وجعلت من لبنان منطلقاً لبناء سياسات شرق أوسطية فرنسية. واعتبرت باريس أن قدرتها على التحاور والتفاوض مع جميع الأطراف ورعاتهم الإقليميين، لا سيّما حزب الله المُقاطَع من باقي الدول الغربية[3]، تضيف الى سجلّها نقطة قوة تمكّنها من التصرّف بحرّية وبهامش مناورة سياسية واسع لا محاذير أو محرّمات فيه. وقد سبق لها أن تدخّلت بفاعلية في السنوات الثلاث الماضية، فخلّص الرئيس ماكرون رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري من "الأسر" السعودي والتأزّم الناجم عنه، ونظّمت إدارتُه مؤتمر "سيدر" الذي أشرنا إليه، ونجحت جهود البعثة الفرنسية في مجلس الأمن في الأمم المتحدة في تمرير قرار التمديد لقوات اليونيفيل في جنوب لبنان رغم التحفّظات الأميركية.

بهذا المعنى، عُدّت المبادرة استمراراً لنهج سياسي فرنسي يولي الشأن اللبناني اهتماماً خاصاً، ويعتبر اللحظة مؤاتية للعب دور حاسم فيه نتيجة انسحاب معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين الآخرين وتعرّض البلد لإفلاس تام ولتراكم ديون لا قدرة لاقتصاده على الخروج منها، ولا معرفة لطبقته السياسية (المتّهمة بتناهب خزائن الدولة من قبل حركة اعتراض شعبية واسعة انطلقت في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019) بسُبل التعامل معها.

في الوقت نفسه، زعمت فرنسا أن التوتّر الإيراني الأميركي المتصاعد عشية الانتخابات في الولايات المتحدة كان ليؤدي الى المزيد من الانهيارات المالية اللبنانية نتيجة العقوبات وآثارها، وليتسبّب أيضاً بتهديد أمني جدّي قد لا تكتفي إسرائيل إن حصل بالإغارة على مواقع حزب الله في سوريا، بل تتخطّاها الى لبنان نفسه. وهذا شكّل سبباً إضافياً للاندفاعة الفرنسية، إذ أن باريس راهنت على أن الأشهر المتبقية من العام 2020 أشهر تعطّل أميركي نتيجة الانتخابات الرئاسية، بما يُتيح لها قيادة الدفة والتواصل مع إيران لتجميد الصراعات وتهدئة الأمور في لبنان والعراق مقابل وعود بالسعي لوساطات مع واشنطن، سيستجيب لها جو بايدن إن انتُخب، وقد يقبل بها دونالد ترامب إن جدّد الأميركيون له شرط إظهارها جدوى سياساته العقابية السابقة.

يضاف الى ذلك، أن فرنسا حاولت وتحاول العودة القوية الى منطقة شرق المتوسّط منتهزةً فرصة تراجع حضور القوى الغربية الأُخرى في العقد الأخير لصالح روسيا، ولصالح قوى إقليمية "ذات ماضٍ أمبراطوري وتطلّعات هيمنة" على ما قال ماكرون نفسه في توصيفه لإيران وتركيا. ويوفّر لها لبنان (كما العراق حيث الضمور التدريجي للوجود العسكري الأميركي) حيّزاً مهماً لمنافسة الخصوم أو الحلفاء في مرحلة تصاعد خلافات واكتشافات حقول غازية. ولعلّ التشدّد الفرنسي حيال أنقرة يُفسَّر ربطاً بما ورد، إذ أن الطرفين يتواجهان في ليبيا، وباريس تدعم أثينا ونيقوصيا في الأزمة المتوسطية، والأهم، أنها تسعى الى عرقلة تمدّد النفوذ التركي نحو ساحات جديدة (مثل لبنان والعراق) يمكن "للإحباط السنّي من السيطرة الشيعية" فيها أن يكون تُربة استثمار لأنقرة في حقبة انكفاء سعودي (بسبب حرب اليمن والخلافات الخليجية ومشاكل التوريث وتراجع العلاقة بين الرياض وحلفائها اللبنانيين السابقين).

العوائق اللبنانية ولعبة الانتظار

بالعودة الى المبادرة الفرنسية لبنانياً، يجوز القول إن باريس اتّكأت الى عوامل ظنّتها قادرة على فرض مسارَين. الأول إقتصادي خدماتي، والثاني سياسي.

في المسار الأول، عوّلت باريس على تمويل دولي وإدارة فرنسية لعملية إعادة بناء مرفأ بيروت ومحيطه، تُظهر فاعلية وسرعة، بموازاة عملية إصلاح لقطاع الطاقة المهترئ الذي استنزف مالية الدولة اللبنانية على مدى عقود وتحسينٍ لقطاع الاتصالات ولخدمات حيوية أخرى (من ضمنها جمع النفايات) تتصدّر منذ سنوات أشكال المعاناة المعيشية لدى أكثرية اللبنانيين. كما راهنت فرنسا على فرض الرقابة على مصرف لبنان وعلى الإنفاق المالي الرسمي بما يتلاءم مع مشروطية صندوق النقد الدولي للتدخل وإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني وقطاعه المصرفي واستجلاب مساعدة إضافية من البنك الدولي وبدء توفير أموال "سيدر" المعلّقة بانتظار "الإصلاحات" ووقف التهريب على الحدود السورية. وهذا يؤدّي لو حصل وفق المنطق الباريسي الى تجميد انهيار سعر صرف الليرة، وتحسين القدرة الشرائية والسماح بالتالي بالخوض في شكل التعامل مع الكارثة المصرفية وما يمكن إنقاذه من أموال المودعين.

في المقابل، لم تتضّح جيداً معالم المسار السياسي الذي أرادته باريس. فالغضب الشعبي العارم من الطبقة السياسية بأكملها، الذي تلفّقه ماكرون في زيارته الأولى الى بيروت وموقع الانفجار والشوارع المحيطة به في 6 آب/أغسطس، وبدا في تصريحاته ومصطلحاته مستقوياً به لتقريع "المسؤولين" اللبنانيين وتهديدهم إن لم يسيروا بتشكيل حكومة مستقلة وبالعمل لبلورة عقد سياسي جديد، انكفأ تدريجياً وحلّت مكانه في الزيارة الثانية بعد ثلاثة أسابيع (أي في الأول من أيلول/سبتمبر) "واقعية سياسية" اقتضت التعاطي مع الكتل السياسية الحاكمة إياها، والقبول بتوازن القوى القائم نتيجة استمرار حزب الله في الدفاع عن السلطة ومسارعة رئيس الجمهورية ميشال عون الى إطلاق وعود إصلاحية تتماشى مع الطلبات الفرنسية وتكليفه بعد استشارات نيابية عشية عودة ماكرون الى بيروت رئيسَ حكومة لا تعرفه أكثرية اللبنانيين، هو السفير في برلين مصطفى أديب[4]، بهدف البدء في تنفيذ تلك الاصلاحات.

هكذا، استوعبت الطبقة السياسية الضغط الشعبي والفرنسي وادّعت استعداداً لتطبيق الإصلاحات المطلوبة. لكن مفاوضات تشكيل الحكومة تعثّرت، ومحاولة الرئيس المكلّف انتقاء أشخاص مستقلّين لحكومته فشلت، ورفض الأقطاب السياسيون المداورة الطائفية في بعض الوزارات السيادية، فأعلن أديب اعتذاره عن الاستمرار في مهامه في 26 أيلول/سبتمبر وانكفأ عن المشهد السياسي العام. واعتُبر الأمر أول فشل للمبادرة الفرنسية، ليَليه بعد أسابيع فشل ثانٍ تمثّل في رفض بعض المسؤولين السياسيين ومعهم حاكم مصرف لبنان الرقابة على المصرف وعلى الموازنات وبيانات الإنفاق الحكومي.

وإذ أدان ماكرون السياسيين اللبنانيين في تصريحات علنية له وفي أحاديث صحافية واعتبر سلوكهم "عاراً" لا يستحقّه الشعب اللبناني، سارع السياسيون هؤلاء الى تكليف سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة في 22 تشرين الأول/أكتوبر. لكن الحريري المأزوم داخلياً بسبب التراجع الذي أصاب تياره وسقوط حكومته السابقة تحت ضغط الشارع في تشرين الأول/أكتوبر 2019، والمتدهورة علاقته مع القيادة السعودية المشترطة استبعاد حزب الله عن أي تشكيلة حكومية لدعمه رئيساً لها، عجز على مدى أشهر عن تأليف وزارته بسبب الخلافات حول الحصص والحقائب واشتراط رئيس الجمهورية وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الحصول على الثلث الضامن، وبسبب ترك حزب الله الطرف الأقوى حلفاءه (عون وباسيل وبرّي وفرنجية وغيرهم) يتبادلون الاتهامات والحملات السياسية التي تصعّب عملية التشكيل. وبدا الأمر مماطلةً منه ترتبط بسياسة الانتظار الإيراني لما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية، حيث تسعى طهران الى تجميد الديناميات السياسية في لبنان والعراق تمهيداً لاحتمالات التفاوض أو التصعيد مع واشنطن، وتترك لنفسها هوامش مناورة ومقايضة في الساحتين السياسيتين البيروتية والبغدادية. يضاف الى ذلك، أن صدور قرارين أميركيين بفرض عقوبات على مسؤولين لبنانيين (الوزراء السابقين علي حسن خليل من حركة أمل ويوسف فنينانوس من تيار المردة وجبران باسيل) بتهمة الفساد وتغطية أنشطة حزب الله أربك محور الحزب وحلفائه ودفعه الى التصلّب في بعض شروطه (لجهة الإصرار على الثلث الضامن ولجهة الوزارات والحصص).

وعلى وقع استمرار هذا الفراغ الحكومي وبطء تصريف الأعمال، تواصلت الانهيارات المالية ووصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية الى تسعة آلاف ليرة لبنانية. كما ارتفعت معدّلات البطالة ومثلها تقديرات معدّلات الفقر. وفاقمت جائحة كورونا وقرارات الاقفال العام وحظر التجوّل والضغط على المستشفيات والجسم الطبي من الأوضاع المأساوية في البلد. وأدّت الى تظاهرات غضب في طرابلس ومناطق لبنانية عدة، من ضمنها العاصمة بيروت، جابهتها القوى الأمنية والعسكرية بعنف مفرط نجم عنه سقوط ضحايا، وأدانته منظمات حقوق إنسان محلية ودولية واستنكره الناشطون الحقوقيون والسياسيون المعارضون، ورافقته حملات اعتقال وتوقيف تعسّفي على نحو غير مسبوق في السياق اللبناني الحديث.

هكذا، انتهى العام من دون تقدّم في المبادرة الفرنسية ومن دون حكومة لبنانية جديدة ومن دون إصلاحات. ورغم انتخاب جو بايدن رئيساً أميركياً وتعيينه روبرت مالي مسؤولاً عن الملف الإيراني (وهو المعروف بمواقفه المنفتحة على طهران)، فإن المراوحة ظلّت سيدة الموقف في بيروت، ودفعت ماكرون الى إعادة تحريك مبادرته إذ أرسل مستشاريه الى لبنان في شهر كانون الثاني/يناير 2021 وأثار الموضوع اللبناني مع الرئيس المنتخب بايدن في اتصال هاتفي وقرّر القدوم بنفسه الى العاصمة اللبنانية لاستكمال ضغطه على المسؤولين. لكن إصابته بكورونا دفعته الى إلغاء الزيارة، ليعود ويستقبل بعد أسابيع قليلة (في 10 شباط/فبراير) الرئيس المكلّف سعد الحريري ويكرّر دعوته لتأليف الحكومة وللسير في الإصلاحات. 

الحريري من جهته، لم يُفلح في إزالة العقبات الداخلية التي تحول دون نجاح مهمّته. وهو إذ يحاول عبر زياراته الى القاهرة والدوحة وأبو ظبي[5] إعادة بناء شبكة علاقاته الخارجية وتوظيفها لصالح دوره السياسي لبنانياً وحضوره كوسيط بين العواصم المؤثّرة إقليمياً، إلا أنه لم يحظَ بعدُ باستقبال سعودي يُصلح العلاقة بينه وبين قادة المملكة ويمنحه دفعاً إضافياً في دوره وتطلّعاته.

أما في بيروت، فقد أحدث اغتيال الكاتب والناشط السياسي المعارض لحزب الله لقمان سليم في جنوب لبنان صدمة في أوساط الرأي العام وخشية من عودة مسلسل الاغتيالات الذي تواصل بين العامين 2004 و2013 في لحظة وهن وتهتّك وطنيّين، وفي ظلّ حصانة مرتكبي الجرائم وغياب التحقيقات الجدّية الخاصة بجرائمهم (وآخرها جريمة الانفجار في مرفأ بيروت التي نُحّي مؤخراً القاضي المكلّف بها وكُلّف قاضٍ ثانٍ وما زالت ملفّاتها والمعلومات حولها بلا متابعة قانونية جدّية[6]).

خلاصات واحتمالات

ماذا يمكن أن نستنتج من الفشل الراهن للمبادرة الفرنسية ومن العجز اللبناني عن تشكيل حكومة إنقاذية؟ وما هي الاحتمالات في المقبل من الأيام؟

يمكن في الرد على السؤال الأول أن نُشير الى أمرين.

الأول، أن الرئاسة الفرنسية تصرّفت بتسرّع إذ حدّدت مهلاً لتشكيل حكومة وعقد مؤتمر وطني والبدء بورشة إصلاحات اقتصادية وإدارية وسياسية. وهي استخفّت على الأرجح بقدرة القوى السياسية اللبنانية على تعطيل مسار التشكيل من خلال التذرّع بحقوق الطوائف لتوسيع الحصص وانتزاع الوزارات الرئيسية. كما أنها أخطأت في فهم اعتبارات حزب الله وأولويات السياسة الايرانية المعتمدة مبدأ الانتظار وعدم التفاوض على المسائل الاستراتيجية في انتظار التطوّرات في واشنطن.  

والأمر الثاني، أن الفلسفة التوافقية للنظام اللبناني باتت منطلقاً لتعطيله عوض توفير الشراكة في مؤسسات سلطته. فمبدأ الثلث الضامن (أو "الثلث زائد واحد") صار ما يسعى كل طرف أو حلف الى الحصول عليه بحجّة "الميثاقية" ويرفض المشاركة أو منح المشروعية للحكومة إن لم يمتلكه. والطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة منذ العام 2005 (وبعضها منذ العام 1990 بعد انبثاقه من الحرب الأهلية) تملك خبرة في التعامل مع الضغوطات والأزمات واستيعابها واستنفار عصبيات مذهبية وطائفية في مواجهة كل ما يهدّد مصالحها. وهي فعّلت كل خبرتها منذ ما قبل مبادرة ماكرون ثم خلالها لمنع التغيير وإجهاض محاولاته عبر ادّعاء قبول بها ثم الانقلاب عليها خلال التفاوض والعودة الى منطق الحصص والأحجام والضمانات الطوائفية.

ويدفعنا الأمران المذكوران الى البحث في ما يمكن أن تكون عليه السيناريوهات المقبلة الخاصة بما تبقّى من المبادرة الفرنسية التي لا تريد باريس القول بأفولها. والأرجح أن سيناريوهان يلوحان في أفقها.

الأول يفترض استمرار المراوحة بلا حكومة نتيجة تعاظم الخلافات الداخلية حول الحصص والاحجام واتخاذها طابع الاشتباك الطائفي على أساس صلاحيات الرئاستين الأولى (المارونية) والثالثة (السنية) بعد أن حُلّت عقدة وزارة المالية (التي أصرّ عليها الثنائي الشيعي أمل وحزب الله). ويعزّز هذه المراوحة الداخلية بقاء المعطيات الخارجية على حالها، من إيثار طهران مواصلة الانتظار حتى اتضاح معالم المقاربات الأميركية الجديدة، الى تمسّك السعودية باستبعاد حزب الله، ورفض واشنطن التدخل المباشر دعماً لفرنسا لعدم فصل لبنان عن سائر شؤون المفاوضات المقبلة مع إيران (النووية والبالستية والمتعلّقة بدورها الإقليمي)، وعجز باريس عن فرض خيار بمعزل عن المعطيات المذكورة.

السيناريو الثاني يذهب الى احتمال التراجع العوني عن المطالبة بالثلث الضامن (بعد تصريح أمين عام حزب الله حسن نصر الله في 16 شباط/فبراير واعتباره أن لا مبرّر للاصرار على الأمر) في مقابل الاتفاق على المناصب على نحو يحفظ ماء وجه العونيين بما يُفضي الى تشكيل حكومة (بدعم فرنسي وقطري وإماراتي وبقبول أميركي وإيراني مؤقّت، مقابل استمرار التحفّظ السعودي)، ثم السير ببعض الإجراءات المالية والاقتصادية الشكلية للحصول على مساعدات (خليجية وعبر فرنسا) من دون الخوض في القضايا الأكثر أهمية والتي لا حلول في لبنان على المديين المتوسّط والبعيد من دونها: الإصلاحات السياسية والإدارية واستقلالية القضاء ومحاربة الفساد وهيكلة الاقتصاد وتبديل أولوياته وسيادة الدولة على كامل أراضيها وحدودها. وهذه جميعها لا يمكن للطبقة السياسية الحاكمة الخوض بها أو القبول ببعض مضامينها، ممّا يعني أن لا إنقاذ فعلياً، بل لجماً مؤقتاً لوتيرة الانهيار.

في انتظار كل ذلك وقبله ومعه، من المرجّح أن يشهد الوضع الاقتصادي المالي في البلد المزيد من التدهور، مع ارتفاع حاد في البطالة وتوسّع في رقعة الفقر بين اللبنانيين وفي أوساط اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعمال والعاملات الأجانب، ومع اتساع نطاق الغضب الشعبي وتحوّله الى مظاهرات وتحرّكات واحتجاجات دورية تطالب، كما العام 2019، بإسقاط الطبقة السياسية برمّتها.

زياد ماجد


[1] الحكي بحكومة إنقاذ أو "حكومة مهمّة وطنية" جاء عقب استقالة حكومة حسان دياب كنتيجة مباشرة لكارثة الانفجار وللزيارة الرئاسية الفرنسية.

[2] انعقد مؤتمر "سيدر" في شهر نيسان/أبريل 2018 في باريس وبرعاية فرنسية. وهو جمع هبات وقروضاً للبنان بقيمة 11 مليار دولار، واشترط لدفعها قيام الحكومة اللبنانية بجملة إصلاحات وإجراءات لم يحصل أيٌ منها.

[3] فرنسا هي من الدول الغربية القليلة التي أبقت على التمييز بين "الجناح السياسي" و"الجناح العسكري" لحزب الله، فلم تصنّف "الجناح السياسي" منظمةً إرهابية، وهذا يسمح لها بالتواصل معه.

[4] ذكرت معلومات صحفية أن اسم أديب حظي بمباركة فرنسية بعد أن اقترحه رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي (إذ كان مستشاراً له ثم وزيراً في حكومته) على زميله سعد الحريري الذي تبنّاه بدوره.

[5] زار الحريري أنقرة أيضاً والتقى بالرئيس التركي. لكن أوساطه أعلنت أن الزيارة كانت خاصة ولها علاقة بأعمال ومصالح للحريري ولمقرّبين من أردوغان.

[6] لم تصل أي تحقيقات الى هدفها المرتجى، إن في الاغتيالات أو في فضائح الفساد أو في جريمة مثل جريمة مرفأ بيروت التي سبق بعض الصحافيين الاستقصائيين في تلفزيون الجديد القضاء في التعامل معها، إذ عثروا على مستندات ومعلومات تحدّد هوية مستوردي نيترات الأمونيوم الذي تسبّب بالانفجار، وهم ثلاثة رجال أعمال سوريّين من أبرز المقرّبين الى بشار الأسد.