وكيف يُوفَّق اليساريّون
الغربيّون المعنيّون، بين موقفهم الذي كال الاتهامات للثورة السورية ولكفاحها
المسلّح بالعمالة للإمبريالية، وبين كون "الإمبريالية" إياها تقصف
يومياً بالطيران مهاجمي كوباني وتساعد المقاتلين الأكراد على الدفاع عنها؟
ثم كيف يعدّون طلب بعض
المعارضات السورية المساعدات العسكرية التركية (والغربية) فتحاً لباب
"التدخّل الخارجي المرفوض" (الذي لم يروا في تدخّلات روسيا وإيران
وحلفائهما شكلاً من أشكاله)، في حين يطالبون تركيا نفسها بالتدخّل البرّي ويهجونها
إذ تضع شروطاً على الأميركيين لذلك!
يمكن تلاوة إجابات على
أسباب هذه التناقضات الصارخة انطلاقاً من عدّة أمور.
الأمر الأوّل، العلاقة
التاريخية لشبكات يسارية غربية بالقضية الكردية وبقواها السياسية، لا سيما حزب
العمّال الكردستاني الشديد التنظيم والعالي القدرة على التعبئة بين الجاليات
الكردية في العواصم الأوروبية.
الأمر الثاني، "وضوح"
معالم الصراع ومحدوديّة موضعيّته الجغرافية في الحالة الكوبانية بين أبناء وبنات
مدينة وغزاة همجيّين تُظهر تجاربهم السابقة والراهنة في العراق وسوريا مقداراً مخيفاً
من البربرية.
الأمر الثالث،
"الشطارة" الإعلامية للقوى الكردية المدافعة عن كوباني (المقرونة بكفاءتها
القتالية) لجهة تصوير المقاتلات الكرديات، وإظهارهنّ بسفورهنّ يقاتلن الجهاديّين.
ففي التصوير هذا ما جعل المنظّمات النسائية الغربية تنضمّ للتحرّك المساند
لكوباني، وفيه ما جذب مثقّقين وصحافيين للحديث عن الأمر واعتباره ملحمة لا يجب أن
يصمت العالم الغربي "المتحضّر" تجاهها... ولا تنفي سذاجة المثقفين
والصحافيين المذكورين وتنميطاتهم الإستشراقية السطحية (بمؤدّياتها العنصرية) بطولة
المقاتلات الكرديّات وبأسهنّ الواجب الاحترام والتقدير. لكنّها تؤكّد ازدواجيّة
المعايير تجاه الضحايا، وتؤكّد بحث المتضامنين عمّن يعدّونه شبهاً لهم ليرفضوا
ذبحه وإبادته.
الأمر الرابع، المرتبط
بالأمرين السابقين، هو الوحش الجهادي وسهولة التعبئة ضدّه في بلاد يلتحق بعض
أبنائها بجسده المتمدّد في سوريا. وهو بلا شكّ وحش تنبغي مجابهته ومواجهته على مختلف
المستويات.
لكن إذا ذهبنا أبعد من ذلك،
واستندنا الى مجمل تجارب الأعوام الماضية، لأمكننا إضافة عاملَين الى ما أوردناه
لفهم مواقف بعض اليسار الغربي اليوم.
العامل الأوّل، أن معظم
المتضامنين (الغربيّين اليساريّين) مع كوباني اليوم هم من الذين تراوحت مواقفهم
بين دعم النظام الأسدي (والادّعاء أن أعداءه هم الجهاديون والإمبرياليون!)، أو
الاكتفاء بالحياد وتحميل الأسد والمتظاهرين ثم المقاتلين ضدّه مسؤولية القتل في
سوريا؛ وأن معظم المتضامنين هؤلاء لم يُسمع لهم صوت ولو من باب الاستنكار الأخلاقي
– الإنسانوي ضد المجزرة الكيماوية في الغوطة أو ضد قصف البراميل على حلب. وليس من
المؤكّد أن أصواتهم كانت لتُسمع لو كان النظام الأسدي هو المُهاجم مدينة كوباني.
الثاني، أنّ بدائيّتهم
الفكرية (وما فيها من ثنائيات الخير والشر والحلال والحرام) تمنع عنهم القدرة على
التفكير بتناقضاتهم ذاتها: يكرهون قطر والسعودية وتركيا (الأردوغانية) ولكنّهم لا
يرون في مشاركتها أو تغطيتها قصف "داعش" أمراً يستحقّ أكثر من القول "إن
من خلقوا الغول يُريدون وأده". يكرهون الولايات المتّحدة ويعدّون ضغطها
اللفظي على الأسد إثباتاً لنظريّات المؤامرة عليه، ولا يرون في حجبها السلاح عن المقاتلين
ضدّه (وضد "داعش") كما في تجاور الطيّارين الأميركيين والأسديين منذ
أسابيع في السماء السورية ما يدفعهم لإعادة التفكير في الاستراتيجية الأميركية (أو
في غيابها)...
هكذا، يواصلون مسار انحطاطهم
واستنسابية استنكارهم للجرائم وكيلهم بمِكيالَين. وهكذا أيضاً يستمر الشعب السوري
(بعربه وأكراده) في دفع أثمان باهظة للتدهور المريع الذي أصاب الخريطة السورية
جراء مواقف دولية بائسة منذ العام 2011 لم تسمح للثورة السورية بكسر الغول الأول،
الذي أتاح استمراره بمساندة خارجية لغيلان كثيرة بالتهام مناطق واسعة من سوريا...
وكلّ هذا في أيّ حال، لن
يبدّل في شيء من أحقّية المدافعين عن كوباني بكلّ دعم وتأييد، وبأحقّية المدافعين
عن حلب ودرعا وسراقب وجوبر بالدعم والتأييد إيّاه.
زياد ماجد