شهدت تونس انتخاباتها
الحرّة الثانية منذ الثورة. وشهدت بالتالي استمراراً للمسار السياسي الذي افتتحه
إسقاط نظام بن علي في سابقة عربية كان لها الأثر في ما تبعها من محاولات ناجحة أو
أقل نجاحاً في المنطقة.
ويفيد التوقّف اليوم،
عشية الذكرى الرابعة للثورة التونسية، عند أسباب ما يبدو استثناءً تونسياً
"سلميّاً" في عملية التحوّل السياسي. ويمكن في هذا الإطار ذكر معطيات ثلاثة
تترابط.
المُعطى الأول فحواه أن
النظام التونسي الذي أسّسه بورقيبة حمل سمات تحديث إجتماعي وإداري جدّية. كما أن
تسلّطه ثمّ تسلّط خلفه بن علي وفساد أركان حُكمه استندا الى جهاز مدني تدعمه أجهزة
المخابرات، ولم تكن الأخيرة هي الحاكمة المباشرة والمُطلقة. الأهمّ، أن الجيش
التونسي لم يكن ذا ثقل سياسي حاسم ولم يمارس في تاريخه عنفاً ضارياً ضدّ المجتمع.
وكلّ هذا خفّف الأضرار سابقاً ووفّر على البلاد اختبارها لحظة سقوط النظام.
المعطى الثاني مفاده أن
المجتمع التونسي حصّل في العقود الماضية قدراً جيداً من التعليم، واتّسعت طبقته
الوسطى، وتراجع نموّه السكاني، كما حافظت نقاباته العمّالية والمهنيّة والحقوقية
وحركته النسائية على حضور أبقى قضايا العدالة الاجتماعية ومكتسبات المرأة محوريّة
في النقاش العام بما جعلها قضايا تعبئة سياسية تعوّض جزئياً غياب السياسة في
بُعدها التمثيلي الحزبي والانتخابي وفي تداوليّة السلطة. كما أن استناد الاقتصاد
التونسي الى الإنتاج الزراعي والى بعض الصناعات الصغرى والمتوسّطة والى السياحة
والخدمات بعيداً عن موارد الريع رسّخ ثقافة عمل وبحثٍ عنه بعيداً عن الاتّكالية
على توزيع الدولة للموارد وشراء الولاء أو الصمت من خلالها (كما حال جارَي تونس
مثلاً، ليبيا والجزائر). كلّ هذا خلق توازنات داخل المجتمع التونسي جاء إسقاط
النظام ليُظهرها تدريجياً. وكان أن اختير أفضل نظام انتخابي ممكن في مراحل
إنتقالية (مستند الى مبدأ التمثيل النسبي) ليترك للتوازنات تشكيل المشهد السياسي
الجديد بأحجامه المختلفة.
المعطى الثالث زعمه أن
الإسلاميّين التونسيّين، وتحديداً حزب "النهضة"، استفادوا من أربعة
عوامل ليقدّموا تجربةً في الحكم ستسمح لهم بالبقاء أساسيّين في الحياة السياسية. الأول،
براغماتيّتهم وتكيّفهم السريع مع المُتغيّرات، واستنادهم الى تراث من المراجعات السياسية
الداخلية منذ هزيمتهم في أواخر الثمانينات وتعرّضهم للقمع والتشرّد. العامل الثاني
مواجهتهم قوى علمانية تملك قواعد شعبية وليست مجرّد نخب معزولة عن الواقع
الاجتماعي. وهذا دفعهم الى التروّي في خياراتهم، ممّا يُحسب لهم في السياسة وإدارة
علاقاتها. الثالث، الوضع المصري التراجيدي والانقلاب العسكري على حُكم مرسي، وهذا
ما دفعهم للابتعاد عمّا قد يبدو استئثاراً بالسلطة، ليس لأن الانقلاب كان احتمالاً
في تونس، بل لأن موجة معادية للأخوان المسلمين بتوجيه سعودي إماراتي ورضى غربي بدت
عارمة في المنطقة، ولم تكن مصلحة "النهضة" تقتضي مجابهتها. أما العامل
الرابع فيبدو خطيراً ومأساوياً، وهو ارتياح "النهضة" (وتونس) من عبء
حوالي ثلاثة آلاف جهادي تونسي يتوزّعون منذ عامين بين العراق وسوريا مقاتلين في
صفوف "داعش".
في تكامل هذه المعطيات،
نجت تونس من العنف. ولو لجأ بن علي إليه وتجاوب معه ضبّاط الجيش لكان لنا نقاش
آخر. لكن الأمر لم يحصل، وهو كان على الأرجح متعذّراً، نتيجة تركيبة النظام نفسها المناقضة
لتركيبتي النظامين السوري والليبي، والعراقي من قبلهما. وهذا في ذاته أتاح للمسار
الانتقالي أن يكون حتى الآن حمّال آمال نجاحٍ وتطوّر مستديمين.
تونس هي إذاً موقع
التفاؤل النسبي في المنطقة في هذه المرحلة. وهي درس لكلّ من يُصدر أحكاماً مبرمة
أو يستسهل نقد الناس أجمعين من المغرب الى البحرين، متناسياً أن العنف المُسلّط
عليهم هو المصيبة الكبرى التي تُنتج باقي المصائب. فإن انزاح العنف هذا، وهو
بالدرجة الأولى عنف أنظمة الاستبداد ومخلّفاتها، أمكن لديناميّات كثيرة أن تتطوّر
وأن توسّع من مساحات الأمل والتغيير، ولو ببطء وبصعوبة شديدة...
زياد ماجد