الى جان وغابرييل
ليست المسافة بين بيروت والنبطية بالمسافة الطويلة.
لكنها تبدو سفراً أو عبوراً من كوكبٍ الى آخر، من مكان "شبه عاديّ" الى
آخر لم يعُد للعادية سبيل إليه.
مكان تصله بحثاً عن دمار، أو بحثاً عن نجاة من دمار، أو
بحثاً عن ذكرى تعرف سلفاً أن تحطيماً ما جرى لآثارها أو أن لحظة عنف فظيع طحنت
موقعها وجعلت من محاولة لمس تفاصيلها أو استعادة روايتها شأناً متعذّراً، مضنياً،
ومحزناً.
مكان تصله لتقوم بواجب رؤيته كي لا يفوتك من خرابه مشهد، كي لا يكون ما عرفته خالياً من غباره، وكي لا يكون ما توقّعته أقلّ وقعاً أو أكثر صدماً لك ولما صنعته مخيّلتك عنه وله، بعد أن عرفته لسنوات طويلة، قبل سنوات طويلة.
ليست المسافة بين بيروت والنبطية بالمسافة الطويلة.
لكنها سفر عبر زمنَين: زمن حرب دمّرت منازل وساحات وقصفت
أعماراً وأوهاماً وكرامات. وزمن حياة شخصية جمّدت السياسةُ وصراعاتُها انتماءَه الى
مكان كان عزيزاً رحباً كريماً، وظلّ كذلك، لوحده، من دونك، أو باستثنائك.
والسفر عبر الزمنين صعب، ككلّ سفر، ومقلق أكثر من أي سفر. فيه الخوف الدائم والعام عند كل تغيير من الفقدان. من تحوّل الأمكنة الى مواقع لا رغبة ولا دهشة في إعادة اكتشافها. ففيها المألوف الذي لا يترك حيّزاً للانبهار. وفيها المختلف الذي يصعب أن يرضي ذاكرتك وتصوّرك المشتهى عن مآلاته. وفي هذا السفر أيضاً الخوف الخاص أو الفردي. ذاك الذي يدفعك لإقناع نفسك بأن شيئاً ما زال ممكناً لإستعادة علاقة حميمة أو عذبة بما تركتَه طوعاً أو على مضض قبل عشرين عاماً.
هي مسافة ساعة أو ساعة ونصف إذاً، لكنها عبور بين أزمان وأوهام وحقائق ومخاوف تبدو أكبر من حجم بلد صغير وهشّ وبديع.
مدينة للغبار
في النبطية ضجّةُ ورش تصليح وآليات تزيل ركاماً هنا،
وتوسّع ممرّاً بين الركام هناك. أمن حزب الله يسأل عن بطاقات صحافة، ومارة أو باعة
ينظرون بقليل اكتراث الى زوار بكاميرا وهاتفين.
الحياة مستمرّة ولَو بتثاقل، وأسماء المحلّات تشير الى تنوّع
هوايات وأذواق بمعزل عن أحادية سياسية أو عن طغيان أحادية ما.
الدمار متناثر في المفارق وداخل الأحياء، والمرور الى جانب الأنقاض لا يبدو طقساً استثنائياً أو "سياحياً". لا طريق تخلو من حائط مكسور على أشيائه، أو على أشياء الناس وحاجيّاتها الملوّنة.
الغبار في كل مكان، تستشعره إن كنت حامل حساسية تنفّس، ويخال لك أن البقاء في المدينة يشبه السكن في الغبار. غبار سيستمرّ على الأغلب لسنوات طويلة، تلك التي ستشهد الجرف والإعمار والخوف من هدم جديد.
التوجّه بعد النبطية نحو خربة سلم في القطاع الأوسط يمرّ عبر الليطاني والقرى المطّلة عليه. يمرّ أيضاً عبر وديان وهضاب اخضرّ ربيعها. تظنّها خارجة من ديكور سينمائي. تظنّ الحروب التي عرفتها التضاريس هذه أشبه بتهيّؤات أو أفلام. أفلام لم توقظك من وهم مشاهداتها على شاشة تلفزيون أو كمبيوتر سوى غارات قريبة على الضاحية الجنوبية لبيروت، أو أصوات أزيز طائرة درون، تشبه الحشرة القذرة التي لا تتوقّف عن "كشّها" فلا تتوقّف بدورها عن الالتصاق بك والتحليق بجانب أذنيك.
لكن حروب الجنوب حقيقة قد لا يفهم لبنانيون كثر معناها ومؤدّياتها. وقد لا يقدّرون كذلك فداحة الخسائر وقسوة الـ"تروما" الناجمة عنها. فماذا يعني أن تكون "جاراً" لإسرائيل؟ ماذا يعني أن تشهد على مرور المنكوبين في العامين 1948 و1949 وتراهم يستقرّون في مخيّمات ظنّوها مؤقّتة فصارت مساكن عشوائية ومواطن للأسى والانتظار؟ وماذا يعني أن تشهد قراك قصفاً منذ نهاية ستينات القرن الماضي، ثم في منتصف السبعينات؟ وأن تشهد أرضك اجتياحاً العام 1978 واحتلالاً على مدى 22 عاماً تخلّلها اجتياح ثانٍ أوسع نطاقاً وأشدّ قتلاً وتدميراً العام 1982، ثم حربين العام 1993 و1996، ثم حرباً جديدة العام 2006، وصولاً الى حرب هي الأفظع والأكثر فتكاً وتحطيماً على مدى عام كامل بين آخر الـ2023 وآخر الـ2024؟
وماذا يعني أن تتهجّر مرّات ومرّات في تواريخ يُفترض أنها لاحقة لنهاية الحرب الأهلية اللبنانية؟ وماذا يعني أيضاً أن يحصل كلّ ذلك وسط انقسام حادٍ، ووسط خيارات كارثية يتحمّل من انتَخبتَهم جابناً كبيراً من المسؤولية عنها؟
ثم كيف لناس أن يعيشوا اليوم من جديد الى جانب الأنقاض والجرافات؟ كيف لضجيج الحفر والتكسير أن يكون منبّه استيقاظهم وإعلان نهاية نهارهم الطويل؟ كيف لهم أن يسيروا بين صور الشهداء والمقابر المتسعة دورياً لاحتضان شباب في اول العمر؟ شباب كان لآمالهم في ظرف آخر أن تحمل جبالاً.
وكيف لغرورهم أيضاً ولسابق فائض قوّة حزبهم أن يتعامل مع
التحوّلات الكبرى التي
أن يتباهى ناسك بالتعليم والاختصاصات والنهضة العمرانية في كل بلدة اليوم، قبل الحرب، ثم يقرّرون أن المجتمع الجنوبي (الشيعي) تراجع كثيراً مقارنة بمرحلة تحوّلاته الكبرى عند الهجرات المتتالية الى المدينة والى ميشيغان.
كيف لهذا الجمع من البشر أن يتعافى من حروب وتهجير
وغبار؟
ماذا نفعل بكل هذا الدمار؟ كيف نرثي حطام أبنائنا وأسلحتهم؟
وكيف لنا أصلاً، ونحن المولودين في بيروت، المتعلّقين ببحرها وجامعاتها ومقاهيها، أن يبقى لتلك النسمة التي تهبّ علينا حاملة رائحة زهر الليمون أن تنتزع من قلوبنا لهفة ما عرفنا شببهها لحظة وصول السيارة قبل عشرين عاماً أو ثلاثين عاماً الى مدخل بيت مزيّن بشجر الزيتون؟
لا شفاء من الحطام، ولا شفاء من الغبار. قد يرافق الناس
طويلاً. وقد يرافقنا بعد مرورنا العابر.
لكنه حطام البلد وغباره. ورفع الحطام والغبار يكون عاماً
وخاصاً أو لا يكون...
* الصور لغابرييل فرنيني
زياد ماجد
مقال منشور في ميغافون