Sunday, December 21, 2025

فنزويلا كحقل تجارب استراتيجي لدونالد ترامب

يتصاعد التوتّر منذ أيام في منطقة الكاريبي، بعد قرار الرئيس الأمريكي إحكام الحصار البحري حول فنزويلا منعاً لخروج ناقلات النفط العملاقة من موانئ البلاد، واستكمالاً للضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي تمارسه واشنطن على كاراكاس.

يأتي ذلك بعد عقدين من التأزّم في العلاقات بين أمريكا وفنزويلا على خلفية ما شهدته الأخيرة من تبدّلات سياسية بعد انتخاب هوغو شافيز رئيساً لها العام 1998 ونقله بلاده خلال حكمه الممتدّ حتى العام 2013، تاريخ وفاته، الى موقع مناوئ لواشنطن سياسياً من ناحية، والى اقتصاد تسيطر عليه الدولة المركزية، بعد أن كانت تحكمه كارتيلات ورجال أعمال على صلة وثيقة بشركات أمريكية، من ناحية ثانية. وإذا كانت "المسألة الديموقراطية" قد اعتُمدت بعد العام 2005 لتبرير فرض عقوبات تدرّجت في قسوتها، فإن العقوبات الأخيرة والسياسات الترامبية لم تعد تلجأ كثيراً الى الحجة الديمقراطية، بل تستخدم ذرائع أخرى لتبرير الضغوط.

وينبغي القول هنا إن هيمنة شافيز المطلقة على مقدّرات الحُكم طيلة 15 عاماً، واستمرار خلفه نيكولا مادورو على النهج نفسه منذ 12 عاماً، وسوء الأداء الاقتصادي (رغم النجاح لفترة في تقليص الفقر عبر الانفاق الاجتماعي وتحسين ظروف الأحياء المدينية الشعبية) والفساد المستشري في الإدارة، وصعود برجوازية جديدة تنتقم من القديمة (شديدة الفساد) وتقلّدها في نفس الوقت، إضافة الى العنف والانقسام الحاد في المجتمع واتهامات المعارضة للرئيسين السابق والحالي بالتزوير، معطوفة على العقوبات الغربية وتراجع أسعار النفط الذي تشكّل صادراته 90 في المئة من صادرات فنزويلا، وفشل السياسات الصناعية والزراعية (التي فاقمها جفاف العامين 2015 و2016 وشحّ المياه)، أدّت جميعها الى انهيار اقتصادي ومالي وحالات تضخّم قياسية مضطردة، لم يشهد التاريخ العالمي مثيلاً لها. ترافق ذلك مع هجرات كبيرة وحالات لجوء وزّعت حوالي 6 ملايين فنزويلي على دول أمريكا اللاتينية، في حين وصل أكثر من 700 ألف الى الولايات المتحدة ووصل آلاف آخرون الى دول أوروبية، لتتخطّى نسبة من غادروا البلاد الـ20 في المئة من السكان.

ورغم الاستثمارات الصينية والروسية، ورغم "الاستثناء النفطي" في العلاقة مع واشنطن من خلال عمل شركة "شيفرون" الأمريكية العملاقة في فنزويلا ومن خلال صفقات نفطية كبرى بين البلدين (إذ ظلّت الولايات المتحدة رغم العقوبات تستورد النفط الفنزويلي حتى بداية شهر كانون الأول/ديسمبر 2025)، فإن الأحوال الاقتصادية لم تتحسّن كثيراً، ومثلها الأحوال السياسية التي شهدت بعد انقسامات العام 2019 والمواجهات بين أنصار مادورو وأنصار رئيس البرلمان المناوئ له والمدعوم غربياً، انتخابات رئاسية العام 2024 ادّعى مادورو الفوز بها، في حين رفض معارضوه الأمر ومثلهم فعل الغربيّون، أميركيين وأوروبيّين.

وشكّل منح زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، اليمينية المتطرّفة القريبة من دونالد ترامب، جائزة نوبل للسلام هذا العام (لأسباب لم تُفهم، إذ لا إنجاز واحداً لها في أي مضمار)، فرصة لتسليط الأضواء من جديد على أحوال الداخل الفنزويلي البائسة. 

خريطة سياسية أمريكية جنوبية تتغير

على أن عدّة تطوّرات يمكنها تفسير إجراءات ترامب الأخيرة ضد فنزويلا، وحدّة تهديداته.

فسيّد البيت الأبيض يدّعي تزعّم الحُكم الفنزويلي لعصابات تصدير مخدّرات الى الولايات المتّحدة. وهو بات يقصف زوارق من يقول إنهم من المهرّبين على نحو يُثير حفيظة الحقوقيين الذين يعتبرون الأمر قتلاً من خارج القوانين، إذ أن المطلوب اعتقال المهرّبين ومحاكمتهم وليس "إعدامهم". والرئيس الأمريكي يقول أيضاً إن فنزويلا تسرق نفطاً تابعاً لبلاده في المنطقة الحدودية المائية الفاصلة بين ولاية بورتو ريكو الأمريكية والجزر الفنزويلية المقابلة لها. كما أنه يُروّج لمقولة أن تغيير الحُكم في كاراكاس سينهي أزمة اللجوء والهجرة، ويُعيد مئات الألوف من الموجودين في أمريكا نفسها الى بلدهم، وفي هذا ما يُرضي الكثير من ناخبيه.

الأهم من كل ذلك، أن التقارير الدولية حول النفط الصادرة العام 2024 تشير الى كون مخزون احتياطيّ النفط في فنزويلا الأكبر في العالم، وقد يصل الى نسبة خُمس الاحتياطي الكوني، وكميات الغاز والمعادن فيها ذات قيمة استراتيجية كبرى، لا شكّ أن ترامب ومستشاريه يريدون إبعاد الصين عنها والاستئثار بالاتفاقيات التي توفّر لهم أقصى استفادة مستقبلية ممكنة منها.

ويشجّع ترامب على مضاعفة ضغوطه راهناً، والتفكير بعزل النظام الفنزويلي وصولاً الى إسقاطه، تغيّرُ الخريطة السياسية في أمريكا الجنوبية في العامين الأخيرين. فبعد الفوز في الباراغواي والأرجنتين، فاز أقصى اليمين قبل أيامٍ في تشيلي، وبات يشكّل مع حلفائه ثقلاً سياسياً كبيراً في القارة موالياً لواشنطن، عشية انتخابات ستجري في شهر آذار/مارس المقبل في كولومبيا ويمكن أن تطيح بتحالف اليسار الحاكم فيها، بما يُبقي البرازيل وحيدةً، الى جانب الأوروغواي، خارج الحزام اليميني (في وقت تعمّ الفوضى السياسية البيرو وتُعدّ حظوظ اليمين في الفوز بانتخاباته في شهر نيسان/أبريل 2026 مرتفعة جداً).

ويمكن أن نضيف الى ما ورد أن إسقاط الحُكم في فنزويلا سيُضعف النظام الشيوعي القائم في كوبا منذ العام 1959، والذي توفّر له كاراكاس النفط مع تسهيلات مالية لن يحصل عليها في ظلّ أي حُكم آخر. وإنهاء هذا النظام هو بدوره هدفٌ ترامبي، خاصة أن فلوريدا التي يُقيم ترامب نفسه فيها هي معقل المنفيّين والمعارضين الكوبيين الساعين الى التغيير في هافانا.

إعلان الحرب المتعذّر

على الصعيد الحربي، لا تبدو المواجهة العسكرية الواسعة بين الأمريكيين والفنزويليين مرجّحة حتى الآن لعدة أسباب. فرغم قرابة المئة ضربة جوية وصاروخية نفّذتها واشنطن ضد الزوارق التي تقول إنها لمهرّبين ومجرمين تقودهم كاراكاس، ورغم الانتشار العسكري البحري الأمريكي غير المسبوق في المنطقة إن لجهة عدد البوارج أو عديد المارينز أو حجم الطاقة النيرانية المحشودة والسعي لإحكام الطوق على السواحل الفنزويلية، فإن المُتوقّع هو استمرار الضغوط وفرض عقوبات جديدة، ومصادرة ناقلات النفط التي تحاول خرق الطوق، وصولاً الى تنفيذ ضربات على مواقع بحرية فنزويلية يمكن لترامب أن يدّعي أن "تصدير المخدّرات" ينطلق منها.

إما إعلان حرب وإرسال قوات برية، فيتطلّب موافقة من مجلس النواب الأمريكي، وهو أمر غير مضمون، ولا يبدو أن ترامب أصلاً يريد التوجّه إليه لمعرفته أن قاعدته الشعبية لا تميل الى التدخّلات العسكرية المباشرة، وتحديداً إن تضمّنت عمليّات تعرّض جنوداً أمريكيين للخطر، وتكلّف الموازنة الأمريكية مبالغ طائلة. 

الأرجح إذاً أن الإدارة الترامبية تعتبر حصارها العسكري المكمّل للضغط الاقتصادي والعقوبات، في ظل تردّي الأحوال الداخلية الفنزويلية وفي ظل تحوّل سياسي لصالح اليمين الموالي لها في أمريكا الجنوبية، كافياً لمفاقمة القلاقل والاضطرابات في فنزويلا بما يزيد من إضعاف مادورو وحُكمه وصولاً الى إسقاطه.

والأرجح أيضاً أن حليفة ترامب، زعيمة المعارضة الفنزويلية ماتشودو التي قيل إنها "أُخرجت" خلسة من البلاد لتتسلّم جائزة نوبل، تحضّر نفسها للعب دور مستقبلي تتمنّاه رئاسياً على أنقاض حُكم سلفها وسياساته وتحالفاته الخارجية.

ولا يبدو والحال على هذا النحو أن أي حلّ تصالحيّ ممكن، ولَو أن كثراً يعوّلون على وساطات برازيلية تلجم التدهور، أو تؤجّله قليلاً على الأقل...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي