Sunday, March 8, 2009

التيارات الرئيسية في الحركة النسوية - نادية عيساوي


يثير ذكر حركة التحرّر النسائية أو الحركة النسوية (Mouvement Féministe) ردود فعل سلبية عند أكثر الرجال والنساء تجاه ما قد يعدّونه مبالغة أوتطرفاً في تفكيرٍ وسلوكٍ نسويَّين يشبهان إعلان الحرب على الرجال وعلى المجتمع ومؤسساته.

ولا يمكن النظر الى ردود الفعل هذه دون الإشارة الى أنها  تعبّر عن خوف عميق من إمكانية زعزعة دعائم النظام البطركي (الأبوي) الذي جرى بناؤه منذ آلاف السنين: نظام هيمنة ذكورية ظلّ متماسكاً رغم كل الثورات والتطوّرات التكنولوجية التي حصلت على مرّ القرون الماضية. فالتراتبية الناظمة للعلاقات  بين الجنسين تحوّلت الى قناعات راسخة عند النساء والرجال الى حدٍّ صارت تبدو فيه السيطرة الذكورية طبيعية وبديهية.
ويؤكد الفيلسوف وعالم الإجتماع الفرنسي بيار بورديو، في هذا المجال، أن هذه السيطرة مغروسة في اللاوعي الجمعي عند البشر وأنها تحوّلت الى عنصر غير مرأي وغير محسوس في العلاقات ما بين الرجال والنساء. وينبغي بالتالي إخراج هذا اللاوعي، وتحويله الى وعي يعيد كتابة التاريخ.

هذا العمل هو بالضبط ما يسعى إلى تحقيقه النسويون والنسويات من خلال جهدهم الفكري وتحالفهم مع الحركات الاجتماعية الباحثة عن التغيير والحاملة مشاريع بديلة للسائد.
وبهذا المعنى، تُعتبر الحركة النسوية حركة تغييرية تهدف الى تحطيم البداهات الخاطئة ووضع المرأة في موقع "الفاعل" في المجتمع. ومن هنا التعاطي مع صعودها على أنه تهديد لأسس التنظيم الاجتماعي القائمة. 


ولكن، ما هي "النسوية" التي نتحدّث عنها اليوم؟

في ما يلي تعريفان أوّليان للمصطلح المعرّف بها. يقول القاموس: "النسوية هي منظومة فكرية، أو مسلكية مدافعة عن مصالح النساء، وداعية الى توسيع حقوقهن" (Hachette, 1993). أما لويز توبان، النسوية الكندية، التي سنعتمد لاحقاً تصنيفها للتيارات النسوية، فتذهب أبعد من التعريف القاموسي لتقول "إن النسوية هي انتزاع وعي (فردي بداية ثم جمعي)، مَتبوعٍ بثورة ضد موازين القوى الجنسية والتهميش الكامل للنساء".
نذكر هذا، لنؤكد في نفس الوقت إنه لا يوجد نسوية واحدة، بل نسويّات تندرج ضمن مدارس عديدة وتتغذّى من المعطيات الثقافية والاجتماعية المختلفة، وتحاول كل منها الإضاءة على الأسباب التي أدّت الى تهميش المرأة واستضعافها، وبلورة إستراتيجيات لمواجهتها.

يستفيد الفكر النسوي من تراكم تاريخي ومن توليفات نظرية وتحليلات اغتنت الواحدة من الأخرى ونضجت في القرنين الأخيرين. ولعل النسويين والنسويّات الأنغلو-ساكسونيين كانوا السباقين الى بلورة قضايا نظرية وتحويلها الى نضال سياسي.

ويمكن القول إن الحركات النسوية تمحورت لغاية سبعينيات القرن الماضي حول ثلاثة تيارات رئيسية: النسوية الإصلاحية الليبرالية، والنسوية الماركسية، والنسوية الراديكالية. 

1- النسوية الإصلاحية الليبرالية: ينتسب هذا التيار الى خط الثورة الفرنسية وامتداداته الفكرية، ويستند الى مبادئ المساواة والحرية للمطالبة بحقوق للمرأة مساوية لحقوق الرجل في مختلف مجالات الحياة السياسية والاجتماعية. ويتميّز هذا التيار بقناعته بقدرة النظام الرأسمالي الدائمة على التطوّر والتكيّف مع المتغيرات. ويعمل المنتمين والمنتميات إليه من أجل أن يوفّر النظام نفسَ الفرص والحقوق للنساء والرجال، من خلال التركيز على التربية وتغيير القوانين المميّزة بين الجنسين وتكوين لوبيات الضغط وتغيير الذهنيات على المدى البعيد.

2- النسوية الماركسية: على النقيض من توجّه التيار الأول، يعتبر نسويو ونسويّات هذا التيار أن قمع المرأة وقهرها بدآ مع ظهور الملكية الخاصة. فنقل الملكية بالإرث سبّب مأسسةً للعلاقات غير المتوازنة وتوزيعاً للمهام والأعمال على أساسٍ من التمييز الجنسي. وقد شيّدت الرأسمالية نظاماً للعمل يميّز ما بين المجالين الخاص والعام: فللرجل العمل المنتج والمدفوع، وللمرأة الأعمال المنزلية المجانية غير المصنّفة ضمن الإنتاج. واستندوا الى مقولة إنجلز المعتبرة أن "قيام الرأسمالية والملكية الخاصة هو أكبر هزيمة للجنس النسائي".
يرى أتباع هذا التيار أن إعادة انخراط النساء في سوق العمل ومشاركتهن في الصراع الطبقي سيؤدي الى قلب النظام الرأسمالي وإزالة الطبقات.
لكن اقتصار تحليلهم على البعد الطبقي بدا غير كافٍ لشرح أسباب التهميش والتمييز ضد المرأة. كما أن إصرارهم على عدم اعتبار النضال النسوي قائماً بذاته بحجة عدم تشتيت القوى خارج ميدان الصراع الطبقي، أدّى الى ظهور أدبيات نسوية ماركسية تتخطّى إطار تفكيرهم الكلاسيكي وتضيف الى التحليل الطبقي تحليلاً مرتبطاً بالتمييز الجنسي، والى الرأسمالية مفهوم البطركية (أو الأبوية).
ومع سقوط جدار برلين وانهيار التجربة السوفياتية، تبلور ضمن التيار النسوي الماركسي هذا مذهبان رئيسيّان: الأول، مذهب "النسوية الشعبية" والثاني مذهب "الأجر مقابل العمل المنزلي".
"النسوية الشعبية" تكافح لكي يترافق النضال من إجل المساواة بين الجنسين مع النضال ضد الفقر والتهميش والعنصرية.
ونسوية "الأجر مقابل العمل المنزلي" تعمل لتبيان حجم القطاع غير المرأي وغير المحسوب في الإقتصاد، منطلقة من أن العمل المنزلي وعمل الولادة أو "إنتاج البشر" هو مكان استغلال النساء لكونه مجانيّاً ضمن منظومة السوق الإقتصادية (التي يديرها الرجال المتحكّمين). وبالتالي، يشكّل المنزل والحيّ النصف الثاني أو المكمّل من التنظيم الرأسمالي الذي يخدم النصف الأول، أي السوق.

3- النسوية الراديكالية: هدَفَ هذا التيار الى التعويض عن بعض النواقص في النسوية الليبرالية والماركسية من خلال التأكيد على الطابع العام والعابر للمناطق والثقافات، المستقلّ عن الطبقات، للتمييز ضد النساء. ويعتبر أنصاره أن البطركية بحد ذاتها هي أساس هذا التمييز ضد النساء والسيطرة عليهن التي تنسحب على ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجنسية، وتخلق نظام تنميط للجنسين من خلال ثقافتين: واحدة ذكورية مسيطِرة وأخرى نسائية مسيطَر عليها. 
ومن بين استراتيجيات هذا التيار الهادفة الى تغيير المعادلة الراسية، استعادة النساء لأجسامهن وكيانهن وإعادة الاعتبار الى ثقافة خاصة بهنّ (ذهبت في بعض الحالات الى حدّ الانفصال عن الرجال والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة).
وانطلاقاً من عمل هذا التيار، وُلدت مذاهب فكرية ونقدية أضاف كلّ منها مساهمته الى تحليل الواقع وفهم الحالة النسوية. وتأسّس مذهب متمحور حول عالمة النفس لوس إيريغاراي التي طوّرت التفكير في مفهوم الاختلاف، وخلقت نقاشات حول الطابع البيولوجي والاجتماعي لهذا الاختلاف. واستعاد هذا المذهب قول المفكّرة والنسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار"لا نُخلق نساء، بل نصير نساء" جاعلاً منه أبرز شعاراته.

نضال المثليات والسوداوات والبيئيات 
في السبعينيات، نما  تياران جديدان وراحا يوسعان حقول التفكير والنشاط النسويين.
فظهر تيار النسويّات المثليّات الذي اخترق جميع التيارات والمذاهب النسوية منظّراً لكون منطلق التمييز يكمن في العلاقات بين الجنسين، ومحاربته تتمّ بالتالي من خلال الانسحاب من هذه العلاقات نحو علاقات إنسانية جديدة مثلية تتساوى أطرافها جميعاً...
أما التيار الثاني الذي ظهر، والذي أغنى الحركة النسوية الى أبعد الحدود، فكان "حركة النسويات السوداوات" (Black Feminists)، الذي صبّ لصالح المدرسة النسوية الراديكالية. والجِدّة في هذا التيار نشوؤه في أوساط المناضلين والمناضلات السود، مما أضاف البعد العنصري الى معادلة الجنسي والطبقي، ووضع التشابهات بين آليات التمييز العنصري وآليات التمييز الجنسي تحت المجهر. فبالنسبة الى النسويات السوداوت، وصل التمييز الجنسي الى ذروته مع بدء دخول النساء الحيز العام ومشاركتهنّ الرجل في العمل. فقد انتقلن عندها من نظام سيطرة ذكورية واستغلال تقليدي الى كائنات لها نظرياً حقوقها ومسؤولياتها المدنية، تنافس الرجال وتولّد عندهم العدائية والتمييز الجنسي العنيف، على نحو يشبه تماماً التمييز العنصري الذي تعرّض له السود بُعيد تحرّرهم القانوني من العبودية.

وفي الثمانينيات، ومع تصاعد الكوارث البيئية، انخرط النسويون والنسويات في العمل والتنظير البيئي. وتصدّرت النسوية الهندية فاندانا شيفا تياراً نسوياً بيئياً ارتفعت شعبيته في دول العالم الثالث، ومفاد مقولته ان المرأة (المشبّهة بالطبيعة في معظم المعتقدات والخرافات الدينية) تتعرّض لنفس أنماط الاستغلال التي تتعرض لها الموارد الطبيعية على يد النظام الرأسمالي ورجاله.  وبالتالي، لا يمكن لغير ثقافة سلمية، معادية للرأسمالية ومحترمة للشعوب والطبيعة أن تلغي الاستغلال والتمييز اللذين تتعرض لهما نساء الكون...

خلاصة

إذا كان يُؤخذ ماضياً على الحركة النسوية استئثار النساء بعضويّتها واستبعادهنّ الرجال، فتبريرها كان يأتي من قرار بعض مكوّناتها الابتعاد في المرحلة الأولى عن المجتمع وأخذ المسافة عن آلياته التي همّشت النساء والتفكير بواقعهنّ، قبل مواجهته في المرحلة الثانية والانخراط في الصراع ضد مظالمه.

أما اليوم، فالحركة النسوية تحاول بتيّاراتها المختلفة والمتجدّدة الفِعل في المجتمع نفسِه بالتعاون مع القوى التغييرية، وهي تقترح، كما معظم الحركات الاجتماعية، تحوّلات وتغييرات تطال بنية المجتمع ككلّ، وتُقاوم عولمة مساوئه.

ولعلّ تجربة "المسيرة العالمية للمرأة ضد العنف والفقر" ومشاركة النسويين والنسويّات الكثيفة في اللقاءات المواطنية العالمية، كما كتاباتهنّ السياسية وأصواتهنّ في الكثير من المنتديات والمحافل الأكاديمية والإعلامية والاجتماعية تشير الى بداية خروج معظم مذاهب وتيّارات الحركة النسوية من "انعزاليّتها" الأولى، وبحثها عن آفاق جديدة، ولَو أن الطريق أمامها ما زالت طويلة...

نادية عيساوي
ترجم النص من الفرنسية زياد ماجد
نُشر النص في جريدة السفير البيروتية في 8 مارس 2002