Wednesday, February 16, 2011

القاموس العاشق لفلسطين: مرايا الياس صنبر وأصدقائه، وسيرة بلاده الناطقة بالباء

ينسج الياس صنبر[1] من حروف قاموسه "العاشق لفلسطين"[2] عدّة أبجديّات: أبجدية للغياب وللذاكرة، وأبجدية للصداقة، وأبجدية للمكان وقصصه وفنونه وسيرة أهله أفراداً وجماعات، فيأتي كتابه انتقاءً لنتف من تاريخ نجد فيه وطناً وقضايا وأصدقاء وضحكاً وشعراً وفقداناً وهجرات. تاريخ هو أشبه بالمرايا، مرايا الكاتب الفرد وأمزجته وثنايا ثقافته ولغته، ومرايا بلاده الساطعة الحضور رغم غيابها.

القاموس كفعل مضاد للنفي

يعبّر اختيار صنبر للقاموس[3] كشكل للكتابة عن محاولة لاسترجاع الجغرافيا المُصادَرة والمُستبدَلة أسماؤها  بالتأريخ والكلمات.
لذلك، يأتي عمله كفعل نفي للنفي، أو كفعل مضاد للتغييب، ليُعيد انطلاقاً من أبجديّته رسم خريطة لفلسطين، استثنائية لكونها تتخطّى مكانيّتها، وعاديّة لكونها أصلاً ملكاً لأناس عاديين بنى الراهنون منهم ذواتهم بعيداً عنها، في منافي أخذوا من كلٍ منها شيئاً أضافوه الى زادهم والى وعيهم وحياتهم ورغباتهم وموتهم وذاكراتهم المُتَناقَلة.

ولعل "الدردشة" بين الكاتب وصديقه الشاعر محمود درويش التي يستهلّ بها صنبر قاموسه تشي بالكثير مما أراد قوله في صفحاته مزاوجةً بين استثناء وعادة:
"- ماذا سنفعل، أنت وأنا، عندما نصبح في سن الشيخوخة؟
- سنجلس تحت شجرة تين، في باحة منزل في فلسطين.
- يجيب الناس عن هذا السؤال عادة مشيرين الى نشاط، الى اهتمام. أما أنت، فتشير الى مكان. أقول: ماذا سنفعل؟ فتسمع: أين سنكون؟...
- هذا صحيح. لكن يمكن أن أقول لك أيضاً، إننا سنتّفق مستقبلاً على قاعدة: أن لا نتبادل أي أحاديث غير عادية. أن نكتفي بالتحدّث عن الطقس وعن الغيوم العابرة".
كما أن سؤال ابنة صنبر المفاجئ له قبل سنوات، وهي في سن السابعة، يكمل المعنى المنبثق من "الدردشة" مع درويش. تسأله البنيّة: "هل ستُمضي عمرك كلّه في الحديث عن فلسطين؟" فيذكّره استفهامها (الاستنكاري أو النقدي) بأهمّية التعبير الواضح عمّا تَنازعَ ميولَه على مدى أعوام التزامِهِ السياسي: إلتصاقٌ بقضية ورثها واختارها، وتَحرُّرٌ منها نحو فضاء أرحب لا يبقيه – رغم تمسّكه بها – حبيس تراجيديّتها، ولا يجعله باحثاً (عبرها) عن بطولة أو فعل ملحمي أو دور يتخطّى أدوار الناس "العاديين" الذين يسعى للعيش مثلهم.


لهذا، يبدأ صنبر أبجديّته بحرف الD، مقدّماً إياه على الA، منتقياً عبارة Dernière أي "أخيرة" ليقول - كما قال عدة مرات في السابق! - إنها قد تكون المرة الأخيرة التي يكرّس فيها مؤلّفاً كاملاً لفلسطين. ثم يعود ويختم قاموسه أيضاً بحرف الD (كعَودٍ على بدء) مخصصاً إياه للفيلسوف الفرنسي جيل دولوزDeleuze  الذي علّمه قيمة الحركة وأهمّية تحويل النقطة الى سطر، والفرادة الى تنوّع، والذي أقنعه أن الترحال يزيد المرء غنىً ثقافياً وتوهّجا.

كُتب الحروف

تنساب حروف القاموس وموضوعاته جامعة نصوصاً من مختلف مساحات الحياة.
تفتح الألف A آفاق الغياب Abscence والنفي والمنفى والعودة. وتعرّج على الصداقة Amitié وأصدقاء العمر الأحياء والراحلين، قبل أن تعود الى الArchéologie (علم الآثار) والى الرقاعة الاسرائيلية الرابطة التنقيبَ تحت الأرض "بتنقيب آخر في السماء" لإثبات مشروعية وجودٍ فوق التراب، ولإقحام "الميتافيزيقيا" بعد الأساطير في صراع سياسي يريد الاستناد الى أقدمية تاريخية لنفي الحاضر. نفي لا يرى فيه المفكّران بيار فيدال ناكيه وماكسيم رودنسون (اللذان يرافقان صنبر في أكثر من حرف في قاموسه) سوى خرافة وتهافت منطق.
ثم تعود الD من جديد، في سياقها الفعلي هذه المرة، لتقدّم Darwich، محمود درويش. فبعد الB التي تتكرّر لاحقاً في الP (وسنتوقّف عندها)، والC وما فيها من صيادينChasseurs  ومن طرائد، من ثقافة Culture ومن أرقام وصراع على الديموغرافيا Chiffres ومن مستعمرات تلتهم الأرض وتقطّع أوصالها Colonies، يأتي الشاعر (الذي ترجم صنبر أبرز دواوينه الى الفرنسية) ليحتلّ فضاء الحرف. يأتي درويش بوصفه طروادياً كما كان يحبّ أن يُسمّى، بوصفه لغة "وبوصفه ما أرادته الكلمات أن يكون: جسداً لطابعها البريدي". يظهر كتقاطع بين الشعر الكلاسيكي والحداثة، بين الحصار والسعة التي تضيق بها الأرض، والأهمّ ربما بين الشعر وفلسطين. فهو شاعر وفلسطيني أو شاعر من فلسطين وليس شاعراً فلسطينياً كما يسهل تعريفه، إذ أن الشعر لا يحتاج الى هوية أو جواز سفر لوصفه أو تحديده.

في الE، نجد الدولة Etat، والصدى Echos والنبي الياس Elias-le-prophète وقصصاً من الطفولة والأعياد ووجوه عائلة صنبر. ثم نصل الى الإلتزام Engagement وانتساب الكاتب لحركة فتح "لوجود الناس فيها"، عوض الانتساب الى القوى الفلسطينية التقدمية الأقرب إليه فكرياً.
أما في الF، فنقع على مزيج من سوسيولوجيا الانتماء الديني وطقوسه وطرفه (Fils des voisins عن يسوع الناصري) والبحث في الأصوليات Fondamentalismes. ثم ننتقل الى حضرة الحدود وجوازات السفرFrontières et passeports، وما يفضي إليه أمرهما من تعريج على قضايا اللاجئين وتأشيراتهم وصعوبة تنقّلهم وما يُفرَض عليهم من أوراق ومن معاملات وإجراءات (لا شك أن لبنان هو الأكثر تضييقاً فيها عليهم).

بعد ذلك، يخصّص صنبر حرف الG للكاتب الفرنسي جان جينيه Genet. سخرية وقسوة وعمق وبحث عن مكان وعن أناس خارج الزمن "معلّقين بحبال الهواء" ودرس في الأدب والكتابة هي إرث جينيه الذي يوجزه الكاتب، بحنان ودقة، لينتقل من بعدها الى الH حيث تطلّ حيفا مدينته، بلده وبلاده، أو أجمل مدينة في العالم بحسب أهله وأقاربه... ثم يأتي التاريخ Histoire والصراع فيه وعليه، يليه حرف الI، وفيه الصور Images والسينمائي الفرنسي-السويسري جان لوك غودار الذي انطبعت علاقته بالضوء وبالحركة والموسيقى والمونتاج بعقل صنبر (الشغوف بفن التصوير وجمع الصور)[4]. وفي الI أيضاً، يتوقف القاموس عند Intifada، وعند قوة انتفاضة العام 1987 وأثرها العميق في مسار الصراع مع الاحتلال من الداخل.


في حرف الJ، تطلّ القدس. Jerusalem عاصمة الصراع وعاصمة حلّه. يزورها القاموس العاشق بوصفها مدينة الرمزيات، ومدينة الزمن الطويل والصبر والأحلام، وبوصفها أيضاً مدينة قابلة ليس للتقسيم بل للتقاسم كعاصمة لدولتين فلسطينية وإسرائيلية.
يقفز القاموس بعد ذلك عن حرفين، ليحطّ رحاله في حرف الM. ميم مثل مأكل (وفن الطبخ).Manger, Art culinaire  يستعيد صنبر أطعمة وحلويات فلسطينية ويستعير ثقافة فاروق مردم بيك صديقه الحميم (و"شريكه" في العديد من المؤلّفات والمشاغل – آخرها كتابهما البديع بالفرنسية "أن تكون عربياً") ليقدّم وصفات ومقادير للأطعمة المنتقاة.
وفي حرف الميم أيضاً، كلمتان – مفتاحان: Mur أو جدار، وMusée-Nostalgie أو متحف-حنين (وفولكلور). تشرح الكلمة الأولى معنى جدار الفصل الذي وُلدت فكرته مع إيهود باراك عام 2000 وأنشئ على مراحل مستمرة مصادراً أكثر من 9 في المئة من أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية بموجب قرارات عسكرية، مصيباً السكان الفلسطينيين بأضرار فادحة في حياتهم اليومية وحركتهم وممتلكاتهم. فيما تشرح الكلمة الثانية، وفيها استذكار لكتابات وأبحاث ومراسلات، التمييز الضروري الذي يريده صنبر بين الفولكلور والتبارز مع إسرائيل لإثبات القِدَم وفداحة المعاناة من جهة وبين التأريخ الرصين والبحث العلمي من جهة ثانية. كما تُجري الكلمة أيضاً مقارنة جميلة (وحزينة) بين منزل فرويد في فيينا (المتحوّل متحفاً، وقد هجره فرويد الى لندن وهُرّب أثاثه بعد صعود النازية) وما يمكن أن يكون عليه متحف للنكبة في فلسطين: شعور بالفقدان والغياب والنفي وصور تستبدل الأغراض والأماكن (والأشخاص) ولا تولّد غير الفراغ والصمت...

حرف النون N يحمل Négocier أي "أن تتفاوض". الكلمة هنا فعل وليست إسماً ولا حتى مصدراً. وهي بهذا تشير الى التفاوض الفلسطيني (مع الإسرائيليين) بوصفه فعلاً أو عملاً سياسياً قائماً في ذاته كموضوع لقاموس فلسطيني. فهو شهد اعترافاً إسرائيلياً وأميركياً ودولياً غير مسبوق بفلسطين والفلسطينيين وبمنظمة التحرير ناطقةً بإسمهم. وهذا الاعتراف، بعد مسيرة عقود من النضال والمقاومة، بمعزل لاحقاً عن مضامين الاتفاقات وما عابها، وبمعزل عن الثمالة التي أصابت المفاوضين الفلسطينيين إثر الاعتراف بمشروعيتهم وتمثيليتهم، هو من أهم ما حقّقته القضية الفلسطينية في السنوات العشرين الماضية. وهو ما يبقى اليوم من مسار السلام المترنّح أو الميت الذي قضت عليه المستوطنات والمستوطنين.

يظهر حرف الO بعد هذا التقديم "النوني" له، ليشرح معنى "منظمة التحرير الفلسطينية" OLP: منظمة هي منذ صعود ياسر عرفات وصحبه في العام 1968 بمثابة الأرض للفلسطينيين الجامعة كل تنوّعهم وتناقضاتهم. وهي على هذا الأساس صنو اسم علمهم وصنو استقلالهم في صراعها مع إسرائيل وفي صراعها مع العديد من الأنظمة والحكومات العربية. على أنها بعد عودة قياداتها الى الضفة وغزة عام 1994، صارت بالإضافة الى ماهيتها الأساسية شيئاً آخر. صارت سلطة وصارت جهازاً وصارت تماساً مع أبناء رقعة جغرافية يختلفون في سيرتهم ومسيرتهم وعلاقاتهم وتحوّلاتهم عن أبناء الشتات، المبعثرين في الدول والمتّصلين بمجتمعاتها المختلفة، الذين شكّلوا المنظمة وعاشوا فيها. بهذا المعنى صارت المنظمة في العقدين المنصرمين شيئاً يصعب معرفة مآله، لكنه يذكّر على نحو ما بما قاله محمود درويش ذات مرة: "ما أكبر الفكرة، ما أصغر الدولة"...


P أو B، أو B أو P: هذا هو السؤال
في فقرتين لحرفين يتماهيان فلسطينياً، يطرح الياس صنبر المقولة الوجودية الشيكسبيرية في قالب طريف للغاية. مردّ الأمر أن لغزاً ما يجعل حرف الP ممتنعاً عن ألسن الفلسطينيين، فيحيلونه على الدوام باءً. هكذا، تظهر بعض الملصقات بالفرنسية أو الانكليزية وكُتب عليها: Long live Balestine أو Vive la Balestine. وهكذا أيضاً تتعرض أحرف وكلمات لغتين فرنسية وإنكليزية "لاعتداءات" طريفة، تصل لغاية صياغة معادلات رياضية تستبدل بعض قواعد النطق. فعلى اعتبار أن حرف الفاء (في فلسطين) يتحوّل الى باء في الفرنسية والانكليزية، يقدّر بعض الفلسطينيين أن الفاء في الفرنسية يمكن أن تصير باءً في العربية. فيصبح برج إيفل مثلاً برجاً لإيبل، وتصبح كاليري لافاييت محلات للاباييت.
أما الأطرف فهو أن جواب أحد كبار المسؤولين الفلسطينيين عن سؤال طرحه عليه صديق لبناني حول أسباب عجزه عن التمييز بين الB والP قد جاء على النحو التالي:
Ya akhi i know the difference but i don’t know where to « but » it.
(يا أخي أعرف الفرق، لكنني لا أعرف أين "أضعه").
هذا الفرق هو أيضاً ما لم تعرف إدارة الإذاعة الفلسطينية وضعه في المكان السليم حين أسمت نفسها: BBC أو Balestine Broadcasting Corboration. ولولا أن البي بي سي في لندن فهمت على الأرجح أن حرف الباء "قد ضرب من جديد"، لكان للأمر شأن أقل طرافة أمام القانونيين ومحاكمهم...

مجلة الدراسات الفلسطينية، إدوار سعيد، الختيار: الحياة والموت

تُبرز الأحرف من الR وحتى الV، مروراً بالS والT أسماء وتواريخ وقضايا. أبرز الأسماء، إسم Said، إدوارد سعيد، الذي يتذكّر صنبر زياراته له في حياته النيويوركية، في شغفه بالموسيقى، في ثقافته الرفيعة وفي حدّته السياسية المفضية قطيعة في الصداقة بينه وبين كثر من أترابه وأحبائه، ومن بينهم صنبر نفسه، نتيجة تصاعد نقد سعيد لياسر عرفات وتعميمه النقد هذا على كل من بقي الى جانبه أو مؤيّداً له.
أبرز الأسماء أيضاً، إسم مجلة الدراسات الفلسطينية Revue d’Etudes Palestiniennes التي مثّلت في صيغتها الفرنسية منبراً فكرياً أولاً، وفلسطينياً ثانياً، وعاشت على مدى 32 ألف صفحة مُدخلة فلسطين الى قلب المشهد الثقافي الفرنسي ومستضيفة أسماء لامعة، فنجحت منذ انطلاقها ولغاية انطفائها المؤسف قبل أعوام في تغيير نمطية النظرة الى الفلسطينيين وقضيتهم.

أما الإسم العلم الأهم في القاموس، أو على الأقل الأشد تأثيراً في الواقع السياسي الذي لا ينفصل القاموس العاشق عنه، فهو اسم الختيار، Le Vieux، أو أبو عمار أو ياسر عرفات، أو الرئيس، أو السيد فلسطين (Mr. Palestine). ذلك أنه يندر أن يلتصق إسم شخص باسم قضية أو باسم بلاد كما التصق إسم عرفات باسم فلسطين. من استعادة الهوية الوطنية عبر فتح ومنظمة التحرير الى القتال حفاظاً على القرار المستقل، الى صناعة الرموز في الصراع مع إسرائيل وبناء الشخصية الفلسطينية بالجهد والتضحية والتنوّع والتسامح الديني، الى انتزاع الاعتراف بعد طول تيه وحصارات، وصولاً الى العودة وبناء الدولة – على أخطائها ووهنها، وانتهاء بالحصار في رام الله والمواجهة ثم الموت التراجيدي في المنفى الاستشفائي الباريسي، مثّل ياسر عرفات في سيرته ملحمة الشعب الفلسطيني فتنفّس فلسطين في شتاته وانغرس فيها بعد عودته ومات لأجلها في نفيه الثاني.

العزف ضد الفرقة

قلت في بداية هذه القراءة إن في القاموس مرايا للكاتب. والأدق ربما أن القاموس هذا هو مرآة للكاتب تعكس تعدّد ملامح وجهه وقدرة كل ملمح على التحوّل وجهاً في ذاته.
فصيغة القاموس والقدرة من خلاله على تنويع المواضيع والأساليب والتنقّل وتحويل النقاط الى أسطر على ما كان دولوز يردّد أتاحت لالياس صنبر فرصة التعرّض لأفراد وأماكن وأحداث ومقولات وأفكار يشدّها جميعها خيط الى مكان أو زمان أو مشاعر أو الى المكان والزمان والمشاعر مجتمعة. وهي أتاحت له أيضاً أن يكتب تاريخاً موازياً لفلسطين، لا يشبه السير الرسمية، ولا يهجس بالصراع على الأحقّية، بل يقدّم حكايا إنسانية تصلح أن تكون أيضاً حكايا لأناس بمعزل عما يجمعهم، وهذا ما يدخلها – من دون التخلّي عن كثافة رمزها – الى أفق أوسع، هو الأفق الإنساني. أفق يمتدّ من بحر حيفا حيث فقد ذاك المؤرّخ أوراقه وعمل سنواته الطويلة بعد أن ألزم ثقل المركب  الحامل أكثر من طاقاته منفيين عن بيوتهم عام 1948 الركاب برمي حاجياتهم، فامتزج حبر تاريخه وعرق قلمه بملح الأمواج، الى بيروت فباريس ونيويورك وفيينا، فرام الله وغزة، ليلامس من بعدها المعاني النبيلة للالتزام والمقاومة والإبداع والحرية. معاني تجمع أسماء من عوالم الشعر والأدب والفلسفة والفنون واللغة من كل أنحاء العالم، ومعاني تمنع تحوّل "القضية" الى سجن للعقل والإرادة والرغبة في الضحك وفي الحياة.
والقاموس يقدّم الى ذلك أيضاً، ومن خلال الأمثلة الفلسطينية، درساً حول العنف. حول آلياته ولغته وانتقاله تناسلاً بلسان الجلادين من مرجعية الى أخرى (حال جنود إسرائيليين يشتمون بالألمانية تقليداً لما سمعوه في أفلام أو نقلاً عن أهلهم، وحال فلسطينيين يضربون ويشتمون مواطنيهم بالعبرية، وحال مهاجرين جدد من روسيا يهجون الشيشانيين ويذكرون غروزني على معبر للاحتلال في الضفة).


والقاموس أخيراً هو قصة للصداقة. قصة تجمع فاروق مردم بيك بليلى شهيد وإيلان هاليفي ومحمود درويش والعديدين الآخرين ممن يذكرهم الياس صنبر أو يشير إليهم. وهو في كل ذلك، من استذكاره طفولته وشبابه الأول في لبنان، الى مزاولته التنس والبوكر ثم اختياره الالتزام السياسي من دون التنازل عن حقوق الضحك والقراءة وحب الفنون وجماليات الحياة، ومن استعراض وجوه عائلته و"قومه" الى منفاه المتكرّس اختياراً باريس وما بناه فيه من علاقات، يسافر عبر أمكنة سمع عنها صغيراً ثم زارها "كبيراً"، وأزمنة اختار البحث فيها مؤرّخاً، ليبقى وفياً الى مبدأ "العزف ضد الفرقة ومعها". العزف معها بوصفه واحداً منها، من أدائها ونبضها، والعزف ضدها لرفضه التماهي الكلّي معها كي لا يفقد "المسافة" وكي يبقى فرداً. مسافة النقد أو فردانية العزف. تماماً كما كان مايلز دايفيس يفعل في عزفه في وجه فرقته تاركاً الجمهور لا يرى غير ظهره وموسيقاه...
زياد ماجد
قراءة خاصة لمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 85، شتاء 2011



[1]  الياس صنبر، مؤرخ وشاعر وسفير فلسطين في الأونيسكو.
[2] Elias Sanbar, Dictionnaire Amoureux de la Palestine, Plon, 2010, 481 pages, dessins d’Alain Bouldouyre.
[3]  يُهدي صنبر كتابه الى صديقيه دانيال وصوفي بِن سعيد. دانيال رحل في 12 كانون الثاني 2010، وهو المفكّر التروتسكي والكاتب المتخصّص في والتر بنجامين وكارل ماركس، وأحد وجوه ثورة ال68 الطلابية وقادة الأممية الرابعة، وصوفي هي رفيقته وقرينته الناشطة معه في أكثر الميادين.
يندرج الكتاب – القاموس ضمن سلسلة "قواميس عاشقة" التي تصدرها دار "بلون" وتتناول مدناً وبلاداً وفنوناً ونبيذا. و"تزيّنها" جميعها أغلفة ورسوم داخلية للفنان ألان بولدوير.
[4]  لالياس صنبر كتاب مصوّر صدر عام 2004 عنوانه: الفلسطينيون، صورة أرض وشعبها من العام 1839 لليوم.