في شهر أيار الماضي، شكّلت صوَر رجال بلدة البيضا السورية
المطروحين أرضاً، وأَقدام جنودٍ وشبّيحة تُعمل فيهم دعساً وتنكيلاً، صدمةً لأكثر مَن
شاهدَها. ناسٌ عُزّل يتعرّضون للإذلال من قِبل مسلّحين بالرصاص وكراهية الكرامة، وإعلامٌ
"رسمي" يُكمل الجريمة نافياً عن الضحايا انتماءهم السوري ومدّعياً
عراقيّة المشهد والمشاركين فيه.
ثم جاء أحمد البياسي. وقف أمام كاميرا في نفس موقع مجزرة
الإذلال المقيتة. شهَر بطاقة هويّته وأشار الى الساحة خلفه، وقال إنه كان هناك،
وإنه الرجل الذي قفز على عظامه أولئك المتنصّلون من أي علاقة بالإنسانية، وتناوبوا
على ركله. أكّد بدقيقة وبكلمات وحركات بسيطة مصداقية الفيلم المُسرَّب، المجسِّد
في صوَره وأصوات من فيه، حدود الانحطاط والوضاعة التي لا تليق بغير القتلة ومرتزقة
السلطان.
ثم اختفى أحمد. بعضهم قال إنه خُطف وقُتِل تحت التعذيب، وبعضُهم
أكّد أنه شاهده معزولاً في أقبية المخابرات. اختفى الرجل الذي كان واحداً من وجوه
الثورة السورية، تاركاً مكانه تسكنه وجوه أحياء يُرزقون أو موتى صانت الحرية
بهاءهم بعد الرحيل. غاب عن خاطرنا وعن ذاكرتنا التي أصابتها الدماء واحتلّت
حناياها أسماء أفراد ومدن وبلدات وجموع تتبدّل كل صباحٍ وتكتب الثورة وقصص الكفاح...
لكنّه عاد. أُطلِق سراحه منذ أيام، بعد أن ضاقت السجون
بالنُزلاء، وصار جدد الوافدين يأخذون مَطارح القدامى في الزنازين. واليوم، بعد
عشرة أشهر على انطلاق الثورة، نستذكر أهمّية وقوف أحمد في أيار أمام الكاميرا
وخطورة عملِه "السياسي": المساهمة في تأسيس المُواطنية في سوريا. فقد تسلّح
ببطاقة الهوية وصورته الشمسية عليها ليقول إنه مواطن من البيضا، وليدفع تهمة حصول
الجرائم في مكان آخر. ليرفض تجاهل سوريّته ونسبه الى "كوكب" ثانٍ.
ليُعطي وجهاً وشكلاً فردياً لمشهد الأجساد المتلاصقة ذات الوجوه المغيّبة،
المغروزة بالأرض، التي يحجب عنها المجرمون النور والهواء... أكثر من ذلك، ساهم أحمد
في كسر ما تبقّى من خوف. خرج الى العلن وهو يعرِف كلفة الأمر. خرج بلا أوهام. وقف
عارياً إلّا من اسمه المطبوع على بطاقة رفعها ليضحد بها كذِب الاستبداد، وليُعلن
انتماءه الى المكان والزمان. نظر الى العدسة، وأكّد ما وثّقته صور الفيديو السابقة
المسرّبة خطأً أو تواطؤاً أو تخويفاً أو بيعاً.
أحمد البياسي هو إذن من أوائل المواطنين السوريين، ومن
أوائل الذين ردّوا على الوحوش بإشهار إنسانيتهم وانتسابهم لثورة الحرية والكرامة.
تلك التي سعت أقدامٌ ونِعال وألفاظ لِهتكها، ثم عمدت كذبة الى محاولة إلغائها من الوقت
ومن الخارطة.
أحمد البياسي اليوم حرّ في بلاده المُقبِلة على
الحرية... سلامٌ عليه حيث هو في نفس تلك الساحة، واقفاً فوق تُرابِها الذي بُعث،
بالأنفاس التي التصقت به، حيّا.
زياد ماجد