كيف يمكن وصف نادٍ سياسيّ يقوده دونالد ترامب، معاملاً معظم قادته بازدراء وسوقية، طالباً من بعضهم ما يسمّيه أموالهم الفائضة، ومن بعضهم الآخر الالتزام بما يأمرهم به، مهدداً بتدمير اقتصادات هنا و"قتل أعداء" هناك، خاطباً في برلمان إسرائيلي قبَيل توقّف إبادة جماعية وحضَريّة لم يحصل ما يُعادلها فظاعةً في التاريخ الحديث، فيقول إن "بيبي كان يتّصل بي يومياً لِيطلب أسلحة أميركية لم أسمع أحياناً بها. نرسلها له، وهي رائعة، فيستخدمها على نحو حسن جداً. لقد أنجز مهمة ممتازة".
وكيف يمكن وصف جمهور معجب بفظاظة الرجل المذكور، ومبهور بقدرته على الارتجال (الرث) والشتم وخرق القوانين والخروج عن كل سياق ديبلوماسي مألوف في العلاقات الدولية، لفرض ما يريد بالقوة، وهو فوق ذلك فاحش الثراء، تَفاخر أكثر من مرّة بذكائه الذي سمح له بالتهرّب الضريبي؟
الأرجح أن الوصف في الحالتين، مهما حاول الإحاطة بأمور، تفوته أمور أخرى.
فالقول بصعود اليمين المتطرّف في كل أنحاء العالم تقريباً، ومعه صعود نخب شعبوية تخاطب غرائز عنصرية وتتمرّد على خطاب المساواة وحقوق الإنسان والقانون الدولي، وتُعادي ما تعدّه نخباً ومؤسسات وفلسفات نسوية ويسارية وبيئية، يفسّر قيادة ترامب له وقبول نظرائه بالقيادة المذكورة، لا يفي غرض الشرح المكتمل. ذلك أن الاختلالات الاقتصادية والتحريض ضد "المختلفين" وتراجع الثقافة لصالح الدعاية، وتمركز ملكية كثرة من وسائل الإعلام المرئي والمسموع الصانعة لجزء من الرأي العام في أوساط قريبة من أوساط اليمين إياه، إضافة الى إخفاقات اليسار وانقساماته غير الفكرية بالضرورة، تساهم بدورها في إنتاج المشهد البائس الذي نقع عليه راهناً.
والقول بالخوف الشخصي لرؤساء دول وحكومات من ترامب لأسباب ترتبط بأسلوب حكيه وبمسلكه الذي يمكن أن يتسبّب بالإهانة والذي تصعب مجاراته فيه، هو قول على صحّته، لا يكفي أيضاً لتفسير الصور القادمة من لقاءات يتعامل فيها الرئيس الأميركي مع الجميع بفوقية شديدة. فخوف هؤلاء ناجم كذلك عن جانب من ثقافة مشتركة (ذكورية) داخل نادي الرؤساء الذي يجمعهم، ترضخ للقوي وتستقوي لاحقاً على الأضعف اقتصادياً وسياسياً.
ولعلّ إضافة عنصر آخر تفيد لاستكمال جوانب من الشرح الآنف. فقسم كبير من المسؤولين اليوم، بمن فيهم العديد من الأوروبيين، يرتبطون مباشرة برجال أعمال يمولّون حملات دعائية يستفيدون منها، ويعدّون الشراكة السياسية مع ترامب ضمانة لإشراكهم في الصفقات مع محيط الرئيس الأميركي أو لتجنّب أقصائهم من مناقصات ومشاريع واستثمارات محتملة. وهذا يطرح مسألة ترتبط بفسادٍ مالي لم يسبق له مثيل وزبائنية وشبكات انتفاع بين السياسيين عابرة للحدود، تحاول الصحافة المستقلّة استقصاء أخبارها وتغطيتها، ويسعى القضاء في دول "الحدّ الديمقراطي المقبول" لمكافحتها. لكن فضائحها إذ تحصل لم تعد تُثير السخط المعهود، ولا تدفع دائماً لاستقالات أو لنبذ من "نادي الأقوياء"، بل لضجة سرعان ما تنتهي لصالح أخبار أخرى تتدافع على شاشات التلفزة والهواتف "الذكية"، فتحوّلها الى مجرّد متفرّقات، ينظر إليها البعض بشكّ أو بنسبية فظيعة.
وإذ يُستثنى أفراد قلائل من نادي الأقوياء هذا، يشذّون عن الحالات المشار إليها ويُبقون للسياسة مصداقية وجدوى، فإن الخطر الشديد هو في التطبيع مع كل ما نرى، وفي القبول "الواقعي" بالفساد كظاهرة مستديمة وطبيعية على مختلف المستويات، وتحويل الضحالة وهجاء الحقوق والثقافة ومفاهيم التحرّر الى موضع تفاخر، طالما أنها صادرة عن قويّ بات الافتتان بحصانته وممارساته شرطاً من شروط الانخراط في العالم الذي يُعاد تشكيله.
لحسن الحظ أن ثمة مقاومة ناشئة، ولو ببطء، لهذا
السائد المفروض بعنف رمزي وماديّ ضارٍ. مقاومة ترتبط بحسّ إنساني عداليّ، لم
تجسّده قضية كما جسّدته القضية الفلسطينية خلال الأشهر الماضية، فبدا كأنها الحالة
الكونية الوحيدة المضادة لمنطق السطوة وانتهاك القوانين واحتقار الحياة البشرية في
جغرافيات كثيرة من العالم.
وهذا في ذاته يُفسّر عمق حقد ترامب وسائر "الأقوياء" وجمهورهم عليها، والحملات ضد القائمين بها، وعمق كراهية الفلسطينيين "المتسبّبين بها" وبمفاعيلها.
على أن التحدّي في المقبل من الأشهر والسنوات
هو في استمرارها من ناحية، وفي تحوّلها من ناحية ثانية الى ما هو أبعد من التعبير
عن غضب أو انفعالات وعواطف. وهذا لن يكون بالأمر اليسير نظراً لما قد يبرز فيها من
تناقضات وانتهازيات وأجندات تتنابذ ما أن تتخطّى لحظتها الفلسطينية. لكنه يظلّ
التحدّي الأبرز الذي يستحقّ عناء الخوض.
مقال منشور في ميغافون