Saturday, January 21, 2012

بيروت، الوجه الآخر: بعض القمع والكثير من الاستباحة

النّص هذا مداخلة مكتوبة قُدّمت في أواخر العام 2009، في ندوة نظمّتها الحركة الثقافية في أنطلياس في إطار مؤتمرها حول بيروت.
والندوة جمعت، الى كاتب هذه السطور، كلاً من أحمد بيضون ومنى فيّاض وعبده وازن وجميل جبران، وتطرّقت الى الانتهاكات والاعتداءات والاغتيالات التي تعرّضت لها بيروت في العقود الأخيرة.

الى سمير قصير...

تحضر بيروت في البال على هيئة مشاهد متتابعة، تبدو في الكثير من الأحيان مفككة متناثرة، فيما هي على الأرجح تقاسيم لوجه واحد، هو وجه مدينة متوسّطية تعجّ بالحياة وتتعايش فيها وتتنابذ ديناميات انفتاح وتعدّد وتنوّع، وانغلاق وعنف وتعصّب. وتتقابل فيها أيضاً حرّيات وإبداع وميول قمع واستبداد وانتهاك واستباحة.

بهذا المعنى، لا يبدو الوجه الآخر لبيروت آخر فعلاً. بل هو ربما جانب من وجهها نفسه، أو هو زاوية يراها المرء حين تشتعل الحرائق ويتصاعد الدخان وتختنق بعض الحريات أو جميعها.
وهذا يعني أن المَشاهد القبيحة التي تتخصّص هذه الندوة في استعراضها بعد يومين من البحث في الإشراق البيروتي تهدف في ما تهدف إليه، الى استكمال رسم صورة العاصمة اللبنانية، كما عاشها أهلها القاطنون فيها المنتمون طوعاً أو قسراً إليها.

ومداخلتي ستكون على شاكلة مشاهد يلوّن كلَ واحد منها لونٌ من ألوان التنكيل ببيروت والإساءة إليها تاريخاً وحاضراً. وهي مشاهد غير ملتزمة بكرونولوجيا أو بتطور زمني، بل أستعرضها على أساس تصاعدي في مقدار إيذائها للناس عامة ولمدينتهم الجامعة.

المشهد الأول: في الرقابة والقمع

من صادق جلال العظم ونقد الفكر الديني، الى مارسيل خليفة وأنا يوسف يا أبي، ومن عبده وازن حديقة الحواس الى الرصافي وسيرته المحمدية، مروراً بعقل العويط ورسالته الى الله وأدونيس العكرا واجتهاداته وربيع مروة وذاكرته، من دون أن ننسى بعض الكتب والمجلات الأجنبية، ومن دون أن نهمل أفلاماً محلية وأوروبية وأميركية، وبعض فصول مسرحيات، تُمارس الرقابةُ عملها ولو على نحو متقطّع في بيروت، لأسباب يعدّها الرقيب سياسية حيناً – مسيئة الى الدول الصديقة أو ناكئة في جراح الحرب – ودينية حيناً آخر - جارحة مشاعر المؤمنين ومستهدفة قيماً ومقدّسات - وأخلاقية في أحيان كثيرة - إذ تُظهر عرياً وأموراً يحرص الرقيب على تحصين الناس من غواياتها ومن خدشها الذي يفترضه لذوقهم.

والرقيب هذا، جهةً سياسية نافذة، أو مؤسسة دينية، او حتى فرداً معمّماً أو مكللاً، يستطيع الانقضاض على الكتاب والعمل الفني وعلى المقال والقول من دون مرور دائم بالقضاء المختص ومن دون اللجوء الى المحاكم ذات الصلة. وتجربة الأخيرة في عدد من الحالات كانت ناصعة، كمثل حالتي العظم وخليفة، وأقل نصاعة في حالات أخرى انتهت غرامات واعتذارات أو مجرد منع.
وقد بلغت النخوة بعض الأمنيين، عناصر في أجهزة رسمية أو ضباطاً، حدّ البت في أمور من دون العودة الى أحد، هذا ناهيكم عن مبادراتهم في سنوات سابقة، ليس الى التضييق والرقابة فحسب، بل الى التهديد والمطاردة والمواجهة أيضاً.
وقد نتج عن الأمر في العقود الماضية، تطبيع مع واقع أمني، وتفضيل في أحيان كثيرة للرقابة الذاتية، تجنباً للمتاعب أو لمهانة المنع أو التوبيخ أو ما هو أسوأ من ذلك.


وهذا طعن طبعاً مناخ الحرية النسبي في بيروت، وأساء الى وجه المدينة، دون أن يعني أنه تمكّن من خنق حيوياتها الثقافية التي ظهرت في فترات عديدة عنصر التماسك الأبرز للمواطنين والمواطنات من خوارج الطوائف أو المنشقين عن قيادات الأمر الواقع.

المشهد الثاني: في التسلّط والاعتداء

إن كانت الحرب أبشع ما ينقضّ على المدن وأهلها – وسنشير الى بعض أوجه ذلك لاحقاً – فإن التعدّي العنفي على الناس أو الخرق القانوني لحقوقهم الفردية والجماعية ليس أقل بشاعة بكثير.
هكذا، تستحضرنا من الحقبة المخابراتية السورية الفظّة، أو حتى من حقبات سابقة على استتباب الأمر لبشاعاتها، صور مظاهرات مقموعة واعتداءات عليها، وصور انتشارات أمنية لمنع التجمعات ووأدها قبل أن تلدها الجامعات والشوارع والأحياء المزدحمة.

كما تستحضرنا، مرحلة منع الجمعيات من التأسيس من دون ما سمّي لسنوات بالترخيص، في احتقار للدستور ولقانون الجمعيات العثماني الصادر عام 1909، ومنعها أيضاً من تنظيم أنشطة اعتبرها الرقيب مهدّدة الاستقرار والسلم الأهلي ومشوّهة صورة لبنان في العالم. وهي أتت ملازمة لعمليات إضعاف منهجي للأجسام النقابية – المهيَّئِ بعضها بحكم بنيته الهشة للإضعاف – وتمويت للجامعة اللبنانية التي شكّلت في يوم من الأيام عنواناً وطنياً جامعاً يشبه بيروت، وانبثقت منها تحرّكات طلابية كما تخرّج منها أعلام في الثقافة والأدب والعلوم.

المشهد الثالث: في انتهاك المدينة

تعرّضت بيروت منذ عقود ثلاثة، وما زالت، لهجمة عمرانية عشوائية قضمت متنفّسات سكّانها، وحاصرت المساحات العامة وخنقتها. كما تعرّض وسطها التجاري الذي أتت عليه الحرب لعملية إعادة إعمار اتّفق بعض من أهل الاختصاص العمراني والاقتصادي والقانوني على تعريضها جوانب من الذاكرة البيروتية بفصولها المتعاقبة وبالنسيج الاجتماعي الذي أنتجها لأضرار، بمعزل عن الجوانب السياسية، وعن الكثير من المبالغات ذمّاً أو إشادة.

وتعرّضت المدينة كذلك الى عمليات مصادرة لبحرها في الكثير من المواضع، بحيث أصبح التواصل بينه وبين برّه وناس هذا البرّ متعذّراً أو شديد الصعوبة والكلفة.
وكل هذا، لم يصب المدينة بالفوضى والاكتظاظ والاختناق فحسب، بل أصاب الحيّز العام فيها حيث يُبنى بعضٌ من المواطنية بالأذى، وصار صعباً الوقوع خارج كورنيش البحر البديع، على حدائق عامة أو على منتزهات واستراحات مباحٌ لجميع الناس الدخول إليها.


على أن الأخطر من كل ما ورد، هو ما أصاب المدينة من هجانة وترييف وإضعاف لروحها. وهذا ما سأتوقّف عنده، لارتباطه الوطيد بالكثير من التوترات الاجتماعية والسياسية التي عشنا ونعيش.
فالهجرات والتهجير قبل الحرب وخلالها الى بيروت أنشأت أحياء داخل المدينة لا تشبه جوارها. وأنشأت أيضاً شبيهات لها على ضفاف المدينة ومداخلها. وهذه ليست خاصية بيروتية إن رصدنا تطوّر العديد من المدن في العالم، والعالم الثالث منه بشكل خاص. لكنها اتّخذت، نتيجة الفرز الطائفي والمذهبي عندنا، سمة تبدو خاصة ببلدنا، مرتبطة بالصراعات والعصبيات فيه.
ذلك أن الردّ على التناثر الجغرافي الذي أصاب المهجّرين أو المنتقلين من بلداتهم حيث أتاح الترابط الاجتماعي هدوءاً وطمأنينة، غالباً ما دفع المتناثرين الى البحث عن هويات جديدة تتخطّى اللحظة أو المصلحة أو المكان الذي خالوه مؤقتاً ليصبح دائماً، لتؤّسس لتماسك ظاهري يدفع الهجانة عن المتماسكين ويخفّف القلق والرهبة عنهم من المدينة التي يكتشفون ويخشون.
وغالباً ما وجدوا ضالتهم في ايديولوجيات شمولية تقول بصهرهم وبتجميعهم ليواجهوا مصهورين ومجموعين آخرين.
هكذا توالت على المدينة سلوكياتٌ فيها من كرهها ومن ادّعاء التطهّر من مبتذلاتها، أو من اعتبار الأماكن المؤقتة – الدائمة داخلها متفوّقة عليها وعلى تاريخها، وفيها أيضاً من التعصب والولاء الأعمى، والتمسّك بمن يؤمّن شعور التوحّد حول العصبية، المذهبية بخاصة، ما جعل الحروب تعثر بشراهة على وقودها.

المشهد الرابع: في الاستباحة والقتل

توالت على مدى عقود فصول استباحة بيروت وقهرها، حروباً أهلية وخطوط تماس ومعابر وخطفاً وقتلاً وقنصاً وعبوات ناسفة. وتعاقبت أيضاً اجتياحات النظام السوري والاعتداءات الاسرائيلية عليها، فكانت سماؤها في مواقيت كثيرة عرضة لدخول طائرات إسرائيلية تلقي الحمم لتحرقها.
واستباحة مدينة من فوقها، من هوائها الذي تتنفّسه، ضرب من الإجرام ولا أفظع، إذ يرمي القاتل المستبيح حممه على أجسام يراها ويرى أثر ما يفعل فيها. هو كمن ينفّذ حكم الإعدام، فتترنّح المباني تحت ناظريه وتحت ناره العامودية طاحنة من فيها من سكّان ظنّوا إحصاء الجدران وسماكتها حاميةً لهم من الغبار والردى.


على أننا ونحن نستذكر أهوال ما عشنا وعاشت بيروت، وقد خلناه مشهداً منطوياً، عدنا وخبرناه على جرعات منذ أواخر العام 2004، مع عودة الاغتيالات والعبوات الناسفة، ومع عودة الطائرات عام 2006، ثم الحرب الأهلية أو ما يشبهها عام 2007 ثم في أيار من العام 2008.
وها نحن اليوم، نسكن مجدداً في مدينة يستبيحها السلاح الأهلي ولو تغطّى بلبوس مقاومات تحوّلت أهدافاً في ذاتها. وها نحن نعيش وسط لغة مسفّة تحمل مقداراً من العنف والتخوين والقصف بالشتائم ما يوازي السعي الى القتل المعنوي وتعميم الضغينة.

ولعلنا نشهد ربطاً بما ذُكر، وتتويجاً له، استباحة صارخة لمعنى بيروت كعاصمة وكمدينة جامعة وكقبلة للبنانيين وموطن اندماج لهم.
فصرخات الحمية المذهبية صارت – بعد أن استنفدت مشروعياتها التاريخية وصراعاتها على الماضي وعلى ما انقضى من أيام – تتوسّل التفتيت الجغرافي للمدينة إحلالاً لهويات بحالها في أحياء ورسماً لخطوط قسمة داخلها يُراد لها التحوّلُ جبهات ومحاور رماية بالهتاف والنار.
بذلك، يتم استجداء هيمنة بالجزء على الكل، أو استعاضة بهذا الجزء عن سواه، لما يُشاء له أن يمثّل من تقوقع واكتمال في ذاته.

وهكذا، يصبح ما يمكن أن يكون عصبية مكان أو حي تترجمه ولاءات لفريق هذا المكان الرياضي على ما يجري في المدن الهانئة بالاستقرار مثلاً، عصبية قتال وإقفال حدود في وجه الآخر، أو تذكيراً بخطوط تماس داخل مدينته إن قطعها قد تُقطع أنفاسه.

فإن كان "الله حريري طريق الجديدة" عنوان تصدّ سني لما يمكن اعتباره عدوانية شيعية جسّد 7 أيار أقصى درجاتها، فالهتاف يحيل منطقة يميّزها الصفاء المذهبي النسبي قلعةً شامخة تتصدّع على أسوارها – يعني كورنيش المزرعة والبربير وقصقص – موجات "الغزاة الروافض". وهذا يذكّر "بأشرفية البداية، بداية البشير، واشرفية الحكاية حكاية التحرير". فتلك تختصر البدايات والنهايات وما بينها من حكايا في مساحة جيو طائفية لا أدوار بطولة لغير قاطنيها ولا أسبقيات بحث عن التحرير وعن بشائره خارج حدودها.
وإذ يحار شيعة الثنائية القائمة في سبل الردّ هتافاً، وهم في الأصل يبادرون أو يردّون اشتباكاً بالسلاح وانتشاء بعضلات فاضت فتلاتها، يجدون ضالتهم خارج العاصمة المدينة بمعناها الفعلي، وفي هذا دلالات ليست بالبسيطة. فأحياؤهم في قلب بيروت في خندق الغميق ووادي أبو جميل وحي اللجا والبسطة التحتا وغيرها صاروا يعدّونها جزيرة قُبلتها برّ الضاحية الجنوبية وليس جوارهم المباشر، أي رأس النبع والبسطة الفوقا والباشورة وعين المريسة ومار الياس. لذلك، يتجاوزون جيرانهم، ويقفزون الى الضاحية يحلّونها بأكملها فوق بيروت ("الله نصر الله والضاحية كلها") على نحو يختلف عن المقاربة المجزّأة للعاصمة لدى خصومهم (الطريق الجديدة او الأشرفية أو كركول الدروز). وهم لا يتركون قرنة في الضاحية دون أن يشركوها في تأديب بيروت إن غالى "نواصب" طريق الجديدة في استفزازهم، أو إن شُبّه لهم أن أهل عين الرمانة والأشرفية يحاولون التماثل بهم (وبماضي المنطقتين) والتأهّب للدفاع عن المصير وعن الأحياء السكنية الحامية له أو المحميّة منه، لا فرق.


كل هذا، تقسيمٌ لبيروت تستكملُه شعارات ونصب تذكارية وصور أحياء وشهداء. وكل هذا استباحة لأهم معنى من معاني المدينة العاصمة، ومن معاني بيروت الكوسموبوليتية تحديداً، وهو إيغال في القباحة تلطيخاً لوجه بيروت. تلطيخٌ تتسابق في وشمه الحناجر والسواعد الضاربة ومسلسلات القدح والذم وتمنّي القتل أو الشماتة بوقوعه. وهذه بحسبيَ صنوُ التأسيس لحروب وموقعات موت جديدة.

في الخلاصة

يبدو وجه بيروت بعد هذا العرض موسّخاً مسموماً.
لكنّ لسمّه ترياق، ولوسخه هواء. وما الترياق والهواء سوى العودة الى بعض الهدوء، وبعض التنفس العميق، وبعض البحث عن مشروع الدولة. وهو بحث له مكان آخر، في ندوة مقبلة ربما....

ما أودّ ان أختم به، عوضاً عن هكذا بحث، عبارات وجدانية حكماً لأنني من عشاق بيروت. لكنها واقعية أيضاً تشبهها. فسحر بيروت الغامض المنبعث من تجاور القباحة والجمال، يغلب مع الوقت كل تدنيس لها. فهي قبلة المتوسط، وهي الجامعة والشارع والصحيفة والمعمل والملهى، وهي الفخامة والعيد والخيمة والكتاب والصحبة ونبض الحياة اليومية، وهي "الكيتش" والكعك مع البيكون أو الراميك، كما هي الفيليه والفلافل وعايشة السراي وجميع الكليشيهات الجميلة والباهتة... هي ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح، وهي الأشرفية والطريق الجديدة والحمرا وبرج حمود والضاحية كلها وصولاً الى أنطلياس.


وهي قبل كل ذلك وخلاله وبعده، مدينتنا ومدرستنا وهواؤنا ومقهى كسلنا واستسلامنا للشمس ولهواء البحر المحمّل باليود الحاطّ رحاله على أرصفة كورنيش أعيته الأقدام وعجلات عربات الفول والعرانيس، والكرات المتدحرجة أمام أطفال يركضون ويضحكون ويكبرون ويحلمون، ويتكاثرون....
زياد ماجد