تتحضّر الحكومة اللبنانية هذا الشهر لاستحقاق وطني هو الأهم والأخطر منذ سنوات طويلة: بلورة استراتيجية دفاعية للبنان وتوفير الظروف اللازمة لاحتكار مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية للسلاح وللقدرة على استخدامه. وهذا يعني بالدرجة الأولى تسليم حزب الله كامل عتاده وتجهيزاته الحربية للجيش والبحث في سبل تحقيق الأمر ومراحله الزمنية، وما سيرافقه ويليه من إجراءات وخطوات لتوفير الاستقرار الداخلي وتجنّب التوترات الأهلية من ناحية، ومواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المستمرّة واحتلال أراض لبنانية في الجنوب من ناحية ثانية.
وتصعّب الاستحقاق المذكور جملة عوامل.
العامل الأول، أن الأمر يأتي في ظل ضغوط سياسية أميركية
وهجمات دموية إسرائيلية، مما يجعله يضاعف من مهانة حزب الله، خاصة بعد خساراته
الكبرى في المواجهات الأخيرة وما أظهرته من اختراقات أمنية إسرائيلية واسعة ومن
هوّة تكنولوجية ومن فارق شاسع في القوة التدميرية، ومن انعدام قدرة ردع العدوان
على ما كان يُفترض بالمنظومة الصاروخية أن توفّره، فإذا بأكثر من 85 في المئة من
الصواريخ يُعترض بعد لحظات من إطلاقه بفضل الدعم الأميركي لتل أبيب، وسوء
التقديرات والحسابات للحزب ولحليفه الإيراني.
يُضاف الى ذلك أن إسرائيل استخلصت العِبر من حرب تموز 2006 وتجنّبت المواجهات البرية المفتوحة، فلجأت الى التدمير الكامل قبل أي عملية تقدّم، ومكّنتها حصانتها الأميركية والغربية من ارتكاب كل الانتهاكات الممكنة للقانون الدولي دون خشية ضغوط لوقف هجماتها. وهذا كلّه إذ يجعل البحث في جدوى السلاح الحزبي أكثر ضرورة من السابق بعد أن تهافتت عقيدته وبانت محدوديّة قدرته على المواجهة، يعقّده في نفس الوقت نتيجة المكابرة ومحاولات حفظ ماء الوجه والإبقاء على ثبات موازين القوى السياسية والطائفية الداخلية على ما كانت عليه قبل العام 2023.
العامل الثاني يرتبط بخطابات بعض اللبنانيين المناوئين للحزب، الذين ذهبوا بعيداً في رهاناتهم على العدوان الإسرائيلي لتصفية حساباتهم معه، أو حتى لاعتبار أي انتصارٍ إسرائيلي حاسم في المنطقة بالتزامن مع حرب الإبادة في غزة، انتصاراً لهم ولمشروعهم، ولَو أن معظمهم لا يجرؤ بعد على التصريح بماهية هذا المشروع. وهؤلاء يساهمون في تغذية أحقاد طائفية وتوتّرات مجتمعية قد تتزايد في المقبل من الأيام وتُستغلّ، تماماً كما غذّى السلاح وخطاب الحزب لفترة طويلة الأحقاد والتوتّرات إياها، وهم يقدّمون للحزب ذرائع ليماطل أو يرفض تعديل هويّته ووظيفته، إذ أن تعاملاً مع إسرائيل من قبلهم يعني بالنسبة إليه استهدافاً مباشراً له ولبيئته الشعبية، بمعزل حتى عن تفاهة خطابهم وانحطاط كل رهان وتعامل يستقوي أو يستظلّ بدولة التوحّش واحتقار القوانين والمبادئ الإنسانية.
العامل الثالث يتّصل بالتطوّرات السورية الأخيرة، وما شهدته بلدات في الساحل ثم في جبل العرب من جرائم وتجاوزات وعمليات قتل وخطف وسلب ممتلكات، لأسباب بعضها متّصل بخطابات جهادية وتكفيرية. وهي خطابات تكفي، إن أضيف إليها ما يتسرّب عن مطالبة من القيادة السورية الجديدة بتسليم مسؤولين من حزب الله شاركوا في الحرب السورية الى جانب قوات النظام البائد، لجعل الحزب يتحجّج بأخطار وافدة من الشرق وليس من الجنوب فقط ليؤجّل البحث في مصير سلاحه. وليس مستبعداً أن تتصاعد قريباً أصوات غير شيعية لإثارة الأمر إياه والتحذير من التهديدات العابرة للحدود.
العامل الرابع يتأتّى من عمق الأزمة الاقتصادية المستمرّة التي تتطلّب مفاوضات لبنانية – إقليمية – دولية بحثاً عن حلول ومخارج وعن توافقات على سياسات الإنقاذ المالي وهيكلة المصارف وتوزيع الخسائر، وهي جميعها تُلقي بثقلها على ملفّ سلاح الحزب والمشروطيّات الغربية على لبنان قبل السير بخطط معونته ودعم إعادة إعمار ما خرّبته إسرائيل من مرافق وبنى تحتية في جنوبه وضواحي عاصمته.
على أن جميع هذه العوامل لا تغيّر من أهمية البحث في حصرية ملكية الدولة للسلاح ولقرارات الحرب والسلم وإلزاميّته، ولا تعدّل من كونه الشرط الأوّل في مسار إعادة بناء نفسها وبسط سلطتها وسيادتها، بموازاة الإصلاحات السياسية والإدارية والقضائية وعمليات الإنقاذ المالي والاقتصادي الملحّة. ويمكن القول هنا إن المطلوب من الحكومة، إضافة الى الإصرار المحقّ على البتّ في موضوع السلاح وفق أفق زمني واضح، هو الردّ على جميع المخاوف المشروعة، وتحديد سياسات التعامل الميداني والديبلوماسي والحقوقي مع التهديد الأمني الإسرائيلي واحتلال الأراضي الوطنية، والتفاوض الجدي مع دمشق لتجنّب كل توتّر إضافي في علاقات هي أصلاً شائكة نتيجة ما تسبّبت به جرائم النظام الأسدي في لبنان واحتلاله له على مدى 29 عاماً، وتدخّلات حزب الله العدوانية داخل سوريا دعماً للأسد، وأزمات اللجوء السوري المستمرّ بأوجهها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة، وما يرافقها من إجراءات وتوقيفات وخطابات تحريض بات من الملحّ أيضاً طيّ صفحتها.
التحدّيات كبيرة إذاَ على الصعد كافة. والعوامل التي
ذكرنا تصعّب المهمة الأبرز للحكومة اليوم، ولَو أنها تؤكّد عاجليّتها، بعيداً عن
المزايدات والتهديدات ومسيرات الدرّاجات النارية.
زياد ماجد
مقال منشور في ميغافون في 8 آب/أغسطس 2025