Sunday, September 28, 2025

عن الفساد والقضاء واليمين الفرنسي

حكم القضاء الفرنسي يوم الخميس في 25 أيلول/سبتمبر الجاري على الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي بالسجن لمدّة خمس سنوات بعد أن أُدين بالتآمر لتشكيل "مجموعة من الأشرار" بهدف الاستفادة من أموال ليبية، دفعها نظام معمّر القذافي المخلوع عبر وسطاء (ليبيّين وفرنسيين ولبناني وجزائري) لأبرز معاونَين لساركوزي، صديقه الشخصي ووزير داخليّته كلود غِيان ووزيره لشؤون الهجرة والعمل بريس أورتفو، اللذَين صدرت بحقّهما أيضاً وبحق الوسطاء أحكام بالسجن تتراوح بين سنتين وست سنوات. وأُضيفت الى الأحكام غرامات مالية ومنعٌ من التعاطي بالشأن العام أو ممارسة السياسة لفترات مختلفة.

وسبق للقضاء أن حكم قبل أشهر على ساركوزي بالسجن بتهمٍ أُخرى تتعلّق بالفساد واستغلال النفوذ والتنصّت وغيرها من الجنايات التي أظهرت الى أي حدّ كان سلوك الرئيس اليميني مناقضاً لادّعاءاته حول الشفافية والإصلاح والتغيير في فرنسا. والأهمّ، ولنا عودة الى ذلك، أظهرت الاتهامات والأحكام الصادرة بموجبها أن الرئيس الأكثر تشدّداً تجاه المهاجرين والفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة، الذي اشتُهر وزراؤه وأصحابه بالتصريحات العنصرية – وسبق أن أدان القضاء أورتفو ذاته في هذا السياق – كان في نفس الوقت مستعداً للانبطاح أمام حكّام عرب لقاء رشاوى يتقاضاها ليُنفقها سياسياً داخل حزبه وعلى حملاته الانتخابية.

الفضائح والأحكام بحق المسؤولين الفرنسيين

رغم أن الحكم على ساركوزي مع مباشرة التنفيذ ابتداءً من منتصف تشرين الأول/أكتوبر المقبل هو الحُكم الأقسى على مسؤول فرنسي على هذا المستوى، إلا أن العديد من المسؤولين الفرنسيين جرت محاكمتهم في السنوات الماضية، أي منذ أن صار لمسألة المحاسبة موقع مركزي في الحياة السياسية، ومنذ أن صار بعض الإعلام استقصائياً يلاحق القضايا ويُسقط "الحصانة" المعنوية عن المتنفّذين.

فقد حكم القضاء العام 2011 على الرئيس الأسبق جاك شيراك بالسجن لمدّة سنتين بتهمة الفساد وتمويل وظائف وهمية حين كان عمدة لمدينة باريس. لكن تقدّم شيراك بالسن وحاله الصحية حالا دون تنفيذ محكوميّته. وحكم القضاء إياه قبل ذلك بسنوات على رئيس حكومة شيراك آلان جوبيه بالسجن (مع وقف التنفيذ) لعامٍ وشهرين وغُرّم ومُنع من ممارسة السياسة لمدّة عام بسبب تغطيته على فضائح شيراك.

وفي العام 2022، حكم القضاء على رئيس حكومة ساركوزي، فرنسوا فيّون، المرشّح الرئاسي الذي كانت تعدّه استطلاعات الرأي الأوفر حظاً العام 2017 قبل أن تظهر فضائحه الخاصة أولاً ثم العامة، فيُحاكم على مدى خمس سنوات بتهمة التوظيف الوهمي لزوجته وتسديد مبالغ كبيرة لها من موازنات الدولة، ويُمنع من ممارسة السياسة ويُغرّم، فضلاً عن السجن لأربع سنوات (مع وقف التنفيذ).

كما حكم القضاء على عدّة وزراء من عهدَي شيراك (فرنسوا ليوتار وآلان كارينيون وليون برتران) بتهم فساد ورشاوى وتمويل غير شرعي لحملات انتخابية واستغلال نفوذ. وحكم كذلك على أبرز وجوه اليمين، وزير داخلية شيراك شارل باسكوا، في تهم فساد تُعدّ الأخطر إذ فيها عشر قضايا عمولات وصفقات أسلحة في أنغولا ودول أفريقية كان على صلة بشبكات مافيوية فيها.

وخلال الأعوام الماضية، حكم القضاء على العديد من مسؤولي اليمين المتطرّف بتهم الوظائف الوهمية والتمويل غير الشرعي لحزب الجبهة الوطنية. والحكم الأخير الذي صدر من فترة أطاح مؤقتاً (إذ ثمة دعوى استئناف لم يُبتّ بها بعد) بحقّ مارين لوبن بالترشّح لمناصب رسمية بعد إدانتها بتُهم فساد واستغلال نفوذ.

في المقابل، شهد عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران في الثمانينات اتّهام رئيسة حكومته إديت كريسون باعتماد سلوك زبائني في توظيفها لأصدقاء ومقرّبين منها، فاستقالت من منصبها، قبل أن تُسقَط عنها الاتهامات لاحقاً وتتوقّف ملاحقتها (من دون أن يعني الأمر براءتها). وفي عهد الرئيس الاشتراكي الثاني فرنسوا هولاند، حوكم وزير ماليّته جيروم كاهوزاك العام 2012 بتهمة التهرّب الضريبي وإخفاء حساب مصرفي في سويسرا، وصدر بحقّه حكم بالسجن لأربع سنوات.

تُظهر هذه المحاكمات جميعها، ومحاكمات كثيرة غيرها لسياسيين أكثريّتهم من اليمين الفرنسي، مقدار الفساد الذي نخر صفوف هذا اليمين، فساهم في تراجعه مُبعداً عنه قسماً من ناخبيه، وصارت نسبة التصويت له اليوم لا تتخطّى الـ5 أو الـ6 في المئة، بعد أن كان القوّة المسيطرة على الحياة السياسية في الجمهورية الخامسة (أي منذ العام 1958).

المفارقة أن أحكام الفساد التي أصابت أركانه ارتبط معظمها بأفعال غالباً ما اتّهموا المهاجرين والفرنسيين ذوي الأصول العربية والافريقية بارتكابها: الغشّ والتهرّب الضريبي والاستفادة غير المشروعة من موازنات الدولة. فإذا باتّهاماتهم تبدو تفصيلاً مالياً صغيراً أمام كمّ الأموال المشار إليها في قضايا الاحتيال والسرقة والقبول الدنيء بالرشاوى، بما فيها الصادرة عن زعماء عرب وأفارقة، التي حوكموا هم بموجبها، وفي طليعتهم الرئيس ساركوزي.

عمل الصحافة وصرامة القضاء

من الضروري الإشارة الى أن كثرة من الملفّات القضائية الأخيرة تكوّنت بموجب دعاوى واستدعاءات تبعت تحقيقات صحافية رصينة لاحقت قصص الفساد بتفاصيلها. ولا شكّ أن موقع ميديابارت كان له الفضل الأول في إثارة هذه الملّفات والاستقصاء حولها وترجمة الوثائق المتعلّقة بها ومقارنة المعطيات وصولاً الى نشر ما جرى التأكّد منه. فقضايا الأموال الليبية التي تلقّاها ساركوزي عمل عليها صحافيّو ميديابارت على مدى سنوات. واكتشاف حساب كاهوزاك في سويسرا كان نتيجة لاستقصاءات الموقع أيضاً، الذي كرّس عمله نهجاً جديداً في عمل الصحافة الفرنسية وفي إعادة تعريف أحد أدوارها، ولَو أنه يُجابَه بعداوة من قسم من الطبقة السياسية، ومن قسم من الصحافة ذاتها.

أما في ما يخصّ القضاء، الذي سمحت له قوانين جديدة (وتشريعات أوروبية) بالتشدّد حيال المشتغلين بالشأن العام، فالمفارقة تكمن في هجوم اليمين الدوري عليه منذ عقود بتهمة تلكّؤه في ملاحقة "المنتهِكين للقانون" (والمقصود غالباً شبّان الضواحي "الملوّنين")، وفي عدم القسوة بالأحكام، ثم في تكرار الهجوم عليه عند كل محاكمة لمسؤول يميني، آخرها الأسبوع الماضي، بذريعة تسرّعه في الأحكام وقسوته، وصولاً الى القول بيسارية أكثرية أعضاء جسمه، للادّعاء بوجود حوافز سياسية خلف الأحكام التي يُصدرها.

على أن القضاء يُثبت في تعامله مع القضايا الكبرى، بمعزل عن التجاذبات حوله، صلابته واستقلاليّته ورفضه الضغوط والابتزاز. وقول البعض بأن ملاحقته للسياسيين تُفقد المواطنين الثقة بمسؤوليهم وتؤثّر على استقرار الحياة الديمقراطية قول مردود إذ أن من أبرز الشروط لاستقامة الحياة الديمقراطية، التمنّع عمّا يُخلّ بها ويقدّم النماذج الرديئة للسلطة ولاستغلالها، ورفض حصانة الأقوياء فيها ممّن ينتهكون القوانين ويضرّون بالمصلحة العامة.

في الخلاصة، طوى القضاء صفحة نيكولا ساركوزي بسبب فساده وفساد المحيطين به، لا بسبب مواقفه السياسية. لكن الأخيرة ستحوم بلا شكّ فوق السجن حيث سيمكث لفترة، وهو الذي كان يتوعّد ضعفاء ومهمّشين بإيداعهم فيه، مهدّداً "بتنظيف فرنسا" منهم، فإذا بالقضاء ينظّف فرنسا منه ومن عدد من أعوانه...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق "القدس العربي"