بموازاة حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزة منذ قرابة العامين، وحرب القضم والتهجير والضمّ المتسارعة وتيرتها في الضفة الغربية، ثمة حرب أخرى تقودها إسرائيل نفسها بالشراكة مع أميركا في جنوبَي سوريا ولبنان، لإنشاء ما يسمّى بالمناطق العازلة.
والحق أن اختلافات عديدة تميّز هذه المناطق المفروضة
في البلدين، ولَو أن ثقافة واحدة تتعامل معها، وتربطها بفلسفة مقترحات ما بعد
الإبادة في غزة.
والثقافة هذه هي تلك القائمة على تحويل الأرض
الى مشاعٍ للسطو عليها من قبل دول أو شركات تتماثل في احتقار القانون الدولي (ومبدأ
القانون عامة)، وتعمل على تبديل التركيبات السكانية، وتُعيد هندستها في مناطق
يُنظر الى ناسها عامةً بوصفهم معدومي "الحضارة" أو منزوعي "الأنسنة"،
ثم تُبنى على أنقاض مساكنهم وأملاكهم أبراجٌ ومجمّعات تجارية لمضاربين ومستثمرين
من فصيلة رجال الأعمال التي ينتمي إليها دونالد ترامب ومبعوثه الى لبنان توماس
برّاك.
أما الاختلافات، فتكمن في المقاربات الخاصة بأحوال "كلّ جنوب" وما أصابه إسرائيلياً في الآونة الأخيرة.
جنوب سوريا والأرض المُصادرة
ففي الجنوب السوري، احتلّت إسرائيل أواخر
العام 2024 معظم الأراضي المحيطة بالجولان، التي كانت منزوعة السلاح منذ وقف إطلاق
النار العام 1974 بعد حرب تشرين، وفرضت بالنار خطاً أحمر يحظر تخطّي الجيش السوري
الجديد له. ثم استفادت من الصدام الذي وقع بين الميليشيات البدوية والميليشيات
الدرزية في جبل العرب وما تخلّله من جرائم، ومحاولة النظام في دمشق التدخّل بحجّة
وقفها وسماحه لمجموعات محسوبة عليه مباشرةً بارتكاب فظائع ضد بلدات درزية وضد
مدينة السويداء، استفادت من ذلك، لتحوّل الجنوب السوري بأكمله الى منطقة تحت
سطوتها المباشرة. كما حرّكت المسألة الدرزية العابرة للحدود موظّفةً الغضب الدرزي
ممّا جرى لتعديل "الخريطة العاطفية" قبل البحث بتعديلها في شكلها
الترابي.
والأرجح الآن أن أي تفاوض سوري مع تل أبيب سيضطرّ للتعامل مع الواقع الجديد ومع الفرض الإسرائيلي لمنطقة عازلة لا وجود بشرياً سورياً فيها تكرّس "إسرائيلية" الجولان إذ تنعدم إمكانية إثارة موضوعه بعد أن صار قابعاً خلف هذه المنطقة. والأرجح أيضاً أن أحوال الجنوب السوري بأكمله باتت عرضة "لِتنازع"، ستحاول إسرائيل إبقاء الوضع فيه على مراوحةٍ الى حين تُرسم توازنات "الشرق الأوسط" بعد انتهاء الحرب الإبادية في غزة، وبعد رسوّ الوضع في جنوب لبنان على ما تخطّط له تل أبيب وواشنطن.
حدود لبنان والمنطقة الاقتصادية
ينقلنا هذا الى الجنوب اللبناني، حيث دمّرت
إسرائيل عشرات القرى، واحتلّت مواقع في نقاط خمس، تمتدّ التفافاً من الشاطئ
المتوسّطي الى الحدود السورية، وترفض الآن الانسحاب منها رغم انتشار اليونيفل
والجيش اللبناني جنوب الليطاني وانكفاء حزب الله وما نجا من سلاحه من المنطقة،
وإقرار الحكومة اللبنانية حصر السلاح على كامل الأراضي بيد الجيش اللبناني ومؤسسات
الدولة الأمنية.
والجديد مؤخّراً هو الطرح الأميركي المنسَّق مع تل أبيب، القاضي بإنشاء منطقة اقتصادية فوق ركام عدد من القرى الجنوبية، ومنع إعادة إعمارها ورفض عودة أهاليها إليها، بما يذكّر بمشروع ترامب لغزّة، أو مشروع الريفييرا، المُصمّم بدوره وفق مبدأ تطهير عرقي لمن نجا من الإبادة، وعلى أساس بناء ناطحات سحاب وتجمّعات صناعية ومنتجعات سياحية فوق الأنقاض المجروفة والأشلاء العالقة داخلها، واستصلاح أراض زراعية خالية من السكان والسوّاح على أطراف القطاع المحاذية لإسرائيل.
بهذا المعنى، ثمة ما يشبه في ما يجري من حولنا اختبارَ التوحّش المنظّم المُفضي الى تحويل مناطق في فلسطين وعلى حدود لبنان وسوريا الجنوبية الى مزيج من المعازل أو المباني والطرقات السريعة والمتاجر والفنادق الفخمة، المملوكة أميركياً بالتنسيق مع مضاربين محليّين، والمسَيطر عليها إسرائيلياً على الأرض أو بواسطة طائرات درون، والمُدارة كنماذج ترامبية لمآلات حلّ النزاعات، لا سيّما في بلدان سئم الرئيس الأميركي من تكرار ذكرها منذ سنوات ويعدّها "بلا منفعة" إن لم يستثمر فيها وينتهي من إبعاد بعض سكّانها المتسبّبين بحسبه "بمشاكل لا تنتهي".
هل ما ورد قدرٌ لا مفرّ منه؟ بالطبع لا. لكن
دون التصدّي له صعوبات كبرى، تبدأ بقصر نظر القوى المتصدّية له وبخطابها، وبقلّة
العمل لبناء التحالفات العالمية المواجهة له، أو بسوء الحسابات التي تقلّل من جدّية
ما يُحضّر له، وتحول دون تعاون المعنيّين بمخاطره، لا بل تدفعهم أحياناً الى
التنافس كلّ لما يظنّه خلاصه بمعزل عن مصير الآخرين...