Saturday, September 20, 2025

عن استثنائية موقع صبرا وشاتيلا في خريطة مجازر الحرب اللبنانية

مرّت قبل ثلاثة أيام (في 16 أيلول) الذكرى السنوية الثالثة والأربعون لمجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها ميليشيات تابعة "للجبهة اللبنانية" بإشراف إسرائيلي، وأدّت الى مقتل المئات من النساء والأطفال والمسنّين الفلسطينيين والعشرات من اللبنانيين في المخيّمين وفي الشوارع المحيطة بهما جنوب بيروت، بمحصّلة قدّرتها المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت بـ1300 ضحية.

والمجزرة هذه، التي حضر الاجتماعات التحضيرية لها إيلي حبيقة وميليشياويّون لبنانيون آخرون ومسؤولون عسكريون ومخابراتيون إسرائيليون بينهم رئيس الأركان رفائيل إيتان وضبّاط كانوا على اتصال مباشر بوزير الدفاع أرييل شارون، استمرّت ثلاثة أيام، أطلق الجيش الإسرائيلي خلالها ليلاً قنابل مضيئة لمساعدة المسلّحين على العثور على ضحاياهم. وهي جاءت بحسب المبرّرين لها انتقاماً لاغتيال بشير الجميّل في 14 أيلول 1982.

وبمعزل عن تهافت الاتهام للفلسطينيين باغتيال القائد العسكري "للجبهة اللبنانية" الذي انتُخب في ظلّ الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت الغربية رئيساً للجمهورية، إذ أن من فجّر المقرّ حيث كان مجتمعاً بكوادر حزب الكتائب هو اللبناني حبيب الشرتوني العضو في الحزب القومي السوري الاجتماعي، وبمعزل عن عدم وجود أي حدث بالمطلق يبرّر أصلاً الهمجية التي أفضت مجازرَ قتلٍ وتعذيب، فإن ما جرى في صبرا وشاتيلا لم يجر ما يُماثله طيلة الحرب اللبنانية وفصولها الدموية المختلفة.

ذلك أن المجزرة حدثت من دون صدامٍ مسلّح سبقها، وفي غياب المقاتلين الفلسطينيين الذين رحلوا بحراً مع ياسر عرفات في 30 آب 1982 بعد الاتفاق على خروجهم من بيروت المحاصرة. والمجزرة شهدت كل ضروب التشنيع والاغتصاب والإعدامات الميدانية برعاية إسرائيلية داخل منطقة أمنية مغلقة، ولم تنتهِ إلا بعد فناء من وجدهم القتَلة على قيد الحياة. بهذا المعنى، اختلفت صبرا وشاتيلا عن تلّ الزعتر (حيث عدد الضحايا الأكبر في مجزرة واحدة في لبنان) وعن المسلخ والكرنتينا والدامور، وعن مجازر حرب الجبل في قرى عاليه والشحار الغربي والشوف، التي وقعت جميعها بعد معارك أو في سياق حربي، وكانت نتيجة سقوط منطقةٍ بقبضة من كان يحاصرها أو يهاجمها فنكّل بعد احتلالها بأهلها أو هجّرهم. مجزرة صبرا وشاتيلا جرت خارج كل هذه الإطر، في منطقة شبه معزولة، لم يعد يقطنها غير المدنيّين ومُحتلّ جوارُها من قِبل الإسرائيليين، وجرى نقل مئات العناصر المدجّجين بالسلاح من شرق العاصمة الى مداخلها، فاصطفّوا ضمن مجموعات، وطُلب إليهم اقتحامها وإبادة سكّانها داخل البيوت والأزقة الضيقة والشوارع المحيطة والاستمرار بذلك حتى "إنهاء المهمّة".

وليس الاستذكار الدوري لمجزرة صبرا وشاتيلا بالتالي استذكاراً إنتقائياً، على ما يردّد البعض جهلاً أو تظلّماً، ولا هو "نكء للجراح"، ولا استذكار سياسي تمييزي لأن الضحايا كانوا فلسطينيين أو لأن المجرمين كانوا من ميليشيات اليمين المسيحي اللبناني. إستذكارها هو بسبب استثنائيتها وبسبب مدلولاتها وبسبب تورّط إسرائيل المباشر فيها تنظيماً ورعاية أمنية.

وهو استذكار يرتدي أهمّية مضاعفة اليوم، في ظلّ حرب الإبادة في غزة، حيث تتكرّر قصفاً وتدميراً لأحياء سكنية محاصرة، أو لأبنية سكنية وخيم نازحين عزّل، مئاتُ المجازر التي قارب عدد ضحاياها الموثّقين السبعين ألفاً.

والحقّ أن مجزرة صبرا وشاتيلا ساهمت، كما اجتياح لبنان الأول العام 1978 ثم الاجتياح الثاني العام 1982 اللذَين قُتل فيهما أكثر من 20 ألف مدني لبناني وفلسطيني، في تكريس حصانة إسرائيل تجاه الجرائم والانتهاكات وإفلاتها الدائم من العقاب بمعزل عن فظائع حروبها. وليس مبالغة القول إن الساحة اللبنانية، كانت الوحيدة حتى ذلك الحين خارج مساحة فلسطين التاريخية التي ينقضّ الإسرائيليون على مدنيّيها فيقصفون بلداتهم ومدنهم ثم عاصمتهم بيروت بالطيران والدبابات والبوارج الحربية. ولم يتأتّ عن الأمر رغم ذلك أي إجراء دولي زاجر أو أي فرض لعقوبات أو لمقاطعة، بما أظهر أن لتل أبيب القدرة على فعل ما تشاء، نظراً لتفوقّها العسكري وانحياز معظم الدول الغربية إليها، من دون اكتراث بقوانين الحرب أو بالمعاهدات الدولية ذات الصلة.

وحصانة إسرائيل في حروبها وإثر ارتكاب عملاء لها مجزرة صبرا وشاتيلا بحضور قواتها وإدارتها، عزّزت بدورها حصانة العديد من الأنظمة العربية المعتدية على شعوبها وعلى بعضها، المتذرّعة على الدوام بحصانتها، وأخرجت المنطقة تماماً من نُطُق محاسبة الانتهاكات بالاستناد الى القرارات والمواثيق الدولية.

وهذا كلّه ما زلنا اليوم، بعد 43 عاماً، نرى أمثلته في أكثر من مكان. وهو بلا شكّ أخطر ما أصاب المنطقة بمجتمعاتها ودولها، إذ أن نماذجه لا تخلّف غير الحطام الماديّ والخراب المعنوي، ولا تؤسّس لغير احتمالات الثأر وتنابذ المظلوميّات والكراهية المستديمة.

زياد ماجد

مقال منشور في ميغافون في 19 أيلول/سبتمبر 2025