يبدو باراك أوباما في
مقارباته السياسية الخارجية، الشرق أوسطية خصوصاً، رئيساً أميركيّاً يعتمد
"التجريب" مذهباً، والتهرّب من الالتزامات والتمنّع عن تحديد الأهداف
الواضحة أسلوباً.
فمنذ انتخابه قبل ست
سنوات، اكتفى سيّد البيت الأبيض بوضع خطوط عريضة (فضفاضة) لسياسة بلاده في
المنطقة، يصعب القول اليوم إن إنجازاً مهمّاً حصل في إطار أيّ منها. فحديثه عن
استبدال فلسفة التدخّل العسكري التي اعتمدها سلفه بفلسفة الديبلوماسية والحوار لا
يبدو سياقاً ناظماً لسياسة واشنطن في باكستان وأفغانستان والعراق. وقوله بالانسحاب
من البلدين الأخيرين وتنفيذ معظم الانسحاب هذا يعقبه اليوم حديث عن أخطاء وعن
احتمالات عودةٍ ولو مقنّنة (أو "أمنية"). وتشديده على ضرورة الوصول الى
"تسوية" إسرائيلية فلسطينية يبدو حكياً فارغاً في ظل تمنّع بلاده عن الاعتراف
بدولة فلسطينية وعجزها المتكرّر عن إقناع تل أبيب بتجميدٍ ولَو مؤقّت للاستيطان أو
بتقديم "تنازلات" شكلية تُتيح إعادة "المفاوضات" مع
الفلسطينيين. أما تأكيده السعي للاتفاق مع الإيرانيين حول القضية النووية والتعاون
الإقليمي، فما زال رغبةً واحتمالاً قد لا يسمح المتبقّي من عمر إدارته بتحقيقهما.
على أن الأهمّ ربما في
تقييم السياسة الشرق أوسطية الأوبامية، هو الوقوف على شكل تعاملها مع المتغيّرات
والأزمات في السنوات الأربع الماضية. فمن "التدخّل الجوّي" في ليبيا وإسقاط
القذافي ثم التردّد تجاه المسار السياسي الانتقالي وأطرافه وتركه ينهار، الى
القبول بالأخوان المسلمين في مصر ثم القبول بانقلاب الجنرال السيسي عليهم، وصولاً
الى تنفيذ عمليات قصف أسبوعي في اليمن بطائرات بلا طيّار بحجّة ضرب تنظيم
"القاعدة" ثم العجز التام أمام انفلاش الأخير وتحوّله قوّة عسكرية تواجه
الهيمنة الحوثية المتصاعدة بدعم إيراني وبتواطئ جنرالات علي عبد الله صالح، تبدو
الأوبامية نهجاً يقوم على ترك الأحداث تُملي سبل التعامل الآني معها. والقول إن في
ذلك تقصّداً يهدف الى تعميم الفوضى قول يستمدّ من مخيّلة "المؤامرات"
زاداً أكثر منه توصيفاً للتردّد الدائم و"الالتباس الهدّام" الذي لم يعد
يُتيح المحافظة على مروحة واسعة من الخيارات، يُقال في الديبلوماسية عادةً إن
"الالتباس البنّاء" يسمح بإبقائها.
وإن عاينّا الوضع السوري،
تبدو التجريبية الأوبامية جليّة أكثر وأشدّ تسبّباً بالأضرار. فالرئيس الأميركي
الذي تمنّع عن كل تفاوض جدّي مع موسكو وترك الأخيرة تضع الفيتو تلو الآخر ضد
القرارات الأممية الخاصة بدمشق، تمنّع أيضاً عن كلّ مواجهةٍ جدّية تُثني موسكو
وطهران عن توسيع دعمهما للأسد وإنقاذه من التهالك الذي كاد يداهمه أواخر العام
2012. فرفضُ البيت الأبيض تسليح المعارضة بالأسلحة المضادة للطائرات والدروع،
واكتفاؤه بوضع خطوط حمر تغضّ الطرف عن أنواع القتل المختلفة باستثناء تلك
المستخدمة الغاز الكيماوي، ثم صمته على خرق خطوطه الحمر نفسها وتراجعه عن
"الضربة التأديبية" بعد مجزرة الغوطة في آب 2013، فاقمت الأوضاع
المأساوية في سوريا وأمدّت النظام وحلفائه بجرعات تفاؤل ضاعفت من عمليّات القتل
التي نفّذوها. كما أنها ساهمت، تماماً كما سياسات حكومة بغداد التي استقبل أوباما
رئيسها وتعاون معه، في السماح لـ"داعش" بالصعود واحتلال مناطق واسعة في
سوريا على حساب المعارضة السورية (في الأراضي التي كانت الأخيرة قد حرّرتها)، ثم في
العراق. ولا يبدو القصف الجوّي الأميركي اليوم لمواقع "داعش" في البلدين
سوى استمرار للتجريبية إياها إذ لا أفق سياسياً له ولا جدول زمنياً ولا ربط
بالوضعين السياسيّين الشاذّين في دمشق وبغداد (على اختلافهما الكبير)، ولا أهداف
واضحةً أو قابلة للتحقيق أصلاً...
بهذا، يمكن القول إن
أوباما لم ينجح في التعامل مع أي من ملفّات الشرق الأوسط المتفجّرة حتى الآن.
وافتراض أنه استنزف إيران وروسيا اقتصادياً وعسكرياً افتراضٌ، رغم بعض وجاهته، لا يبدو
كافياً لبناء سياسة ولا لإنتاج توازنات جديدة. كما أن تراجع علاقة واشنطن بحلفائها
التقليديين (باستثناء إسرائيل) واعتبار الأمر مؤشّراً على استدارتها التدريجية صوب
طهران في المعادلة المذهبية – السياسية الإقليمية الراهنة يحتاج الى تدقيق، إذ أن
المسار هذا قد لا يُفضي الى نجاحات نتيجة معوّقات كثيرة، لن يكفي التجريب وحده
للتعامل معها...
زياد ماجد