ينهمر
الموت من الطائرات على قطاع غزة منذ أيام، كما في العام 2012 وفي العام 2008،
تماماً مثل ما انهمر وينهمر على حلب والغوطة ومخيّم اليرموك ودرعا وحمص وسراقب وغيرها
من المدن والمناطق السورية منذ ثلاثة أعوام.
القاتل
في قطاع غزة احتلالٌ إسرائيلي يخرق اتفاقيات جنيف ويتذرّع دوريّاً بأحداثٍ مرحلية
لحجب حقيقةٍ وحيدة هي استمرار احتلاله القطاع رغم ادّعاء الانسحاب منه العام 2005،
لأن كلّ سيطرة على المعابر وحصار وتحكّم بالسيادتين البحرية والجوية تعريفه احتلال
(بأساليب أمنية وإدارية مختلفة)، ولأن لا انتقال في القانون الدولي من حالة
"الاحتلال" الى حالة أُخرى من دون اتّفاق سياسي أو ديبلوماسي بين
الأطراف المعنية ومن دون انتهاء جميع مفاعيل الاحتلال العسكرية، وهي بالطبع كثيرة
ولم تنته.
أما
القاتل في سوريا فاحتلال أسدي يخرق بدوره اتفاقيات جنيف ويحتل الدولة والمجتمع منذ
العام 1970 ويقاوم كلّ محاولة لتحريرهما، محوّلاً الأرض السورية الخارجة عن سيطرته
منذ بدء الثورة العام 2011 الى أراضي محروقة يُدفن فيها ألوف المواطنين.
نحن
إذن أمام مشهدَين فلسطيني وسوري تُغير فيهما الطائرات الحربية وتقصف بالصواريخ أو
البراميل المتفجّرة مناطق مدنية تزعم أن "إرهابيين" يختبئون فيها،
فتدمّر معالم الحياة وتُسقط يومياً عشرات الضحايا. وفي الحالتين، يبدو المجتمع
الدولي عاجزاً عن الوقف الفوري للمقتلة، ولَو أن ديبلوماسيّته تشهد نشاطاً وجهداً
أكبر في الحالة الفلسطينية لِما لفلسطين من أسبقية زمنية ومن تجارب مريرة مديدة
ومن قرارات أمم متّحدة ما زال الكثير منها ينتظر التنفيذ.
ونحن
أيضاً أمام مشهدَين فلسطيني وسوري تنعدم الفوراق بين معاناة الأطفال والنساء
والرجال فيهما، ويتشابه الضحايا المدنيّون بمعزل عن أعدادهم (حيث التفوّق "ما
زال" لآلة القتل الأسدية)، لكن يتفاوت مستوى التضامن الإنساني معهما، فيبقى
محدوداً في الحالة السورية ويبلغ مرتبة مقبولة في الحالة الفلسطينية. ولا أتحدّث هنا عن تضامن الرأي العام العالمي
والعربي الذي يمكن البحث في أسباب تردّده سورياً وتحسّنه فلسطينياً منذ سنوات. كما
لا أتحدّث عمّن لم يُبد أي دفاع عن نظام الأسد ولم يُقم أيَ تبرير لجرائمه، ولم
يستجلب المؤامرات أو المخاوف أو يساوي بين الجميع أو يدّعي قلّة دراية بالشأن السوري
ليهرب من تحديد موقف سياسي وأخلاقي. فهذا لديه ربّما أولويات وخيارات لم يضع سوريا
بينها. أتحدّث هنا عن كثر من الناشطين في شبكات التضامن في المجتمعات المدنية وعن
سياسيين وكتّاب وفنّانين صمتوا صمتاً مطبقاً منذ سنوات، وذكّرنا تحرّكهم اليوم
بأنهم ما زالوا على قيد الحياة، وبأنّهم يتأثّرون لمقتل أطفال بنيران الطائرات.
وهؤلاء
لا شيء يُفسّر مواقفهم أكثر من الجُبن. أكثر من الخوف الذي يجعلهم مريدي الهَوان. فهم
يعرفون جيّداً أن مقتلةً تدور في سوريا وأن الانقسامات حادة تجاهها، لكنّهم يخشون المجاهرة
برأي أو تعاطف منتظرين اتّضاح معالم صورة المنتصر ليصطفّوا الى جانبه.
لهؤلاء
تحديداً، العاجزين عن التأثّر أمام جثمان طفل بعمر الورد في حلب وفائضي الدموع على
طفل مثله تماماً في غزّة، يُفيد خلط الصوَر، وإيهامهم بأن صوَر الموت الحلبي
غزّاوية وأن الطائرات الأسدية القاتلة إسرائيلية، علّهم بعد هدر الدموع واستنكار
الإجرام يتورّطون فيتعذّر عليهم الصمت من جديد. وإن حصل، فلن يعتب الضحايا عليهم
ولن يعتبوا علينا وعلى تلاعبنا. فالضحايا لا يتنافسون. المتنافسون الوحيدون هم
رماة البراميل وصواريخ الطائرات، وهم المدافعون أو الصامتون عنهم، هنا أو هناك...
زياد ماجد