كتب
الزميل حازم صاغية في زاويته في موقع ناو مقالاً بعنوان "فعلاً، قوّة لبنان في ضعفه"، مذكّراً بما عنَته تلك المقولة التي أطلقها بيار الجميل فأثارت وما
تزال جدالاً واسعاً قبولاً بها أو رفضاً.
ويفيد
ربّما لدفع الجدال خطوةً وضعُ المقولة المذكورة في نصابها السياسي اللبناني وفي
الظروف الداخلية والخارجية التي سادت بين عامي 1943 و1958، ثم من جديد بين 1959
وأواخر الستينات. ذلك أن القول في "الضعف" اللبناني يومها قياساً بمظاهر
"القوة" المعسكرة و"ثقافتها" في دول الجوار إنما استند الى
فلسفة سياسية كانت بيروت تعتمدها دستورياً ثم ممارسةً بين المسؤولين في الدولة، هي
التوافقية. فبِوَحيها، صيغَ دستور العام 1926 وصُمّم القانون الانتخابي وفق اعتبار
التمثيلَين المناطقي والطائفي شرطَي المشروعية. وبوَحيها أيضاً، اعتُمد اتخاذ
القرارات السياسية بالإجماع أو بأكثرية موصوفة تمنع استبعاداً لمكوّن أهلي (يمكن
أن تُفضي إليه أكثرية النصف زائداً واحد مثلاً). وبوحيها أيضاً وأيضاً، بدا جسم
الدولة الأمني بعد الاستقلال محدود الحجم والدور إذ لا حاجة سياسية له في مواجهة
مجتمع تتمثّل مكوّناته في المؤسسات الدستورية، ولا انخراط في حروب خارجية تتطلّب
تضخيمه.
ويمكن
بالتالي القول إن "الضعف" كان وثيق الارتباط بتطبيق الصيغة التوافقية
وبعجز طرف من أطرافها عن فرض خياراته على الآخرين؛ وهو ارتبط كذلك بحجم البلد
الصغير وبالقسمة الثنائية الرئيسية فيه، المسيحية المسلمة، التي اعتُبر الميثاق
الوطني للاستقلال العام 1943 تعبيراً عن اتّفاقها على الكيانية اللبنانية وفق
معادلة لا تسمح بتخطّيها أو بالتنازل عمّا دونها.
وليست
صدفة أصلاً أن الدول الأوروبية التي اعتمدت التوافقية لفترة (وبعضها ما زال) كانت
بأغلبها أصغر من جاراتها وأقلّ نفوذاً (أو اهتماماً) بالسياسات الخارجية، عنينا
سويسرا وبلجيكا وهولندا والنمسا (قبل أن تعدّل الأخيرتان نظاميهما)، وكانت القسمات
الداخلية فيها، المستندة الى القومية والدين واللغة أكثر تأثيراً سياسياً من الانقسامات
الاجتماعية.
على
أننا منذ أواخر الستينات، وبعد "أزمة ال1958" والاشتباك حول "حلف
بغداد" والناصرية، نشهد تراجعاً كبيراً في تطبيق التوافقية وفي القدرة على
الدفاع عنها. ذلك أن الحرب الأهلية اللبنانية بدءاً من العام 1975 التي سبّبتها
داخلياً عوامل كثيرة منها رفض اليمين المسيحي كل مسّ بالنظام أو إصلاح له واستسهال
اليسار الذهاب الى الصدام طلباً لقلب النظام في لحظة خلاف مسيحي-مسلم حول الحصص في
النظام إياه وحول الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان، هذه الحرب والتدخّلات
الخارجية فيها قضت على فلسفة التوافقية وطوت على الأرجح صفحتها. فالنخب السياسية
تبدّلت خلالها، وتركيبة الطوائف الاقتصادية - الاجتماعية تغيّرت، والديمواغرافيا
تطوّرت، وهيمنة النظام السوري على لبنان والمسار السياسي الذي أداره من العام 1991
ولغاية العام 2005 أخرجت أبرز القوى المسيحية من معادلة الحكم، فلم يبقَ من
"اتفاق الطائف" الذي أدخل بعض التعديلات الى الدستور سوى الشكل
التوافقي، في حين أن الخيارات كانت تُفرض من دمشق وحلفائها فرضاً.
وترافق
كلّ ذلك مع تحوّل القسمة الرئيسية بين اللبنانيين من مسيحية مسلمة الى سنيّة
شيعية، ومع صعود حزب الله وإنشائه قوة عسكرية وسياسية إيديولوجية مستقلّة عن أي
"قرار" لبناني. وبدا منذ العام 2005 أن الصراع على السلطة وعلى الخيارات
الخارجية سمة سترافق الاجتماع السياسي اللبناني الجديد الذي لم تشكّل عودة
"المسيحيين" إليه تعديلاً جوهرياً في توازناته، إذ انقسموا بدورهم
وتوزّعوا على المعسكرين الكبيرين الناشئين.
بهذا،
صرنا أمام سقوط لمعظم ما قيل أو جرى تجريبه في "لبنان القديم". وصار
النظام الانتخابي الآتي من زمن آخر يبدو أداة تكريس للتوازنات الجديدة ولاحتكار
تمثيل الطوائف، وصار "الضعف" الذي تحدّث عنه بيار الجميل
و"الحياد" الذي افترضه التعاقد الميثاقي يبدوان بلا أهل أو أصحاب في
المشهد السياسي القائم. ففائض قوّة حزب الله وسلاحه الموظّف لخدمة مشروعه وحلفه
الإيراني داخلياً وخارجياً جذب قسماً كبيراً من المسيحيين وقواهم السياسية التي
كانت الأكثر مناداة بالضعف والحياد، ووحّد أغلبية الشيعة حوله، وتسبّب بتغيير جذري
في الثقافة السياسية اللبنانية.
في
المقابل، لم ينجح المعسكر السياسي المضاد للحزب الشيعي المسلّح في تقديم أفكار
إصلاحية أو في بناء تجربة سياسية تؤكّد قدرته على تجديد الحياة السياسية وتشييد
ثقافة تتناسب مع التحوّلات الكبرى التي شهدها لبنان وتُبقي في الوقت عينه لما نجح
في تجربته السابقة حيّزاً تحميه.
...
كلّ هذا يدفع ربّما الى التذكير بمقولة ثانية تُنسب لبيار الجميل، ومفادها أن "الصيغة
والكيان سيّان". فإن كانا فعلاً كذلك، وإن كنّا شبه واثقين اليوم من انهيار
الصيغة أو تداعيها، بات مفيداً أن نبحث في شأن الكيان ذاته، وفي سبل انتشاله من
انهياره هو أيضاً أو لنقل تحوّله الى شيء آخر، حكومته تبدو على الدوام حكومة تصريف
أعمال، ورئيسه "مغيّب"، وبرلمانه يمدّد لنفسه، وبعض أبنائه ينخرطون في
قتال مذهبي في الجوار...
زياد ماجد