على مقربة من قطاع غزة،
حيث العدوان الإسرائيلي متواصل منذ عقود ويبلغ مستوى غير مسبوق من الوحشية، يبدو
المشهد العربي الراهن – في ليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن خصوصاً – مشهداً
بائساً ينثر فيه العنف أشلاءَ الضحايا ويُطيح التعصّب المذهبي والديني ببعض ما
حقّقته الثورات وينقلب العسكر عليها بحجّة الفوضى أو "الأسلمة السياسية"
مُحاولين إعادة تسلّط الثكنات على السياسة والاقتصاد والإعلام والساحات العامة.
وتدفع تطوّرات المشهد
المذكور البالغة الخطورة كثراً الى التسرّع في الأحكام وتعميمها أو الى استخدام
مقولات ثقافوية حول جماعات وهويّات بأكملها، فتسمها بهذه الصفة أو بتلك. ويبلغ
التسرّع مداه حين يُقال مثلاً إن ما يجري هو "نتيجة الثورات" أو إنه
"مخطّط تفتيتي بدأ مع الثورات" أو إن "الأوضاع كانت أفضل قبل العام
2011، فلم يكن الفلتان الأمني قائماً في مصر ولا الميليشيات تتقاتل في ليبيا ولا
الصراعات تنهش اليمن ولا داعش تتقدّم في العراق وسوريا وبين أنقاضهما".
غير أن بعض التدقيق في
الأحكام والمقولات هذه يُظهر كم هي غالباً مزوِّرة عمداً أو متغافلة قصوراً عن
أمور ظنّها واحدنا بديهية.
فهل صحيح أن
"داعش" مثلاً هي وليدة "الثورة السورية"؟ أم أن تناسل السلفية
الجهادية بعد تجربة بن لادن أفغانياً ثم الزرقاوي وبعدهما البغدادي عراقياً فسورياً،
وعبرهما أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية وأبشع نظامين في المنطقة، سابقة بعقود
لما يجري في الشرق والشمال السوريّين والوسط العراقي اليوم؟
وهل صحيح أن اليمن كان
مستقرّاً قبل الثورة أم أن معارك الحوثيين والجيش من جهة، وعمليات القاعدة في
حضرموت من جهة ثانية، والحراك الجنوبي الكبير من جهة ثالثة، كانت جميعها قائمة منذ
سنوات نتيجة فساد السلطة المركزية في صنعاء وإفلاسها وسعي نظام صالح الى الاستمرار
في الحُكم "الى الأبد"؟
وهل رمي الطيران الحربي
الأسدي لآلاف البراميل على المدن والبلدات السورية لمعاقبتها على الثورة ضد نظامه
هي مسؤوليّتها أو مسؤوليّة الطيّارين وآمريهم؟
وهل يمكن بعد سقوط نظام
قاده مستبدّ معتوه في طرابلس الغرب، بدّد مليارات الدولارات على مدى 42 عاماً وقضى
على الحياة السياسية وارتكب مجازر ضد معارضيه، أن ينجح المسار السياسي في ثلاث
سنوات في ظلّ انتشار السلاح؟
وكيف لانقلاب قاده
العسكر العام الفائت في مصر (بعد أن حكموا مباشرة أو على نحو غير مباشر على مدى 57
عاماً أفضت الى "ثورة يناير" العام 2011) ألّا يتسبّب بفوضى، ساهم أيضاً
نهم الأخوان للسلطة وضعف تجربتهم السياسية في الوصول إليها؟
الصحيح اليوم على
الأرجح، أن المنطقة بأكملها تشهد مساراً شديد العسر يخرج خلاله القيح الذي اختزنته
لأكثر من نصف قرن، وتُصارع أنظمة قديمة فيها التغييرَ بما يُبقي القيح ويُطيل
آثاره.
والصحيح أيضاً أن
التحدّيات ما زالت هيَ هيَ، مرتبطةً بالخلاص من تركة الاستبداد، وبمنع استبداله
باستبداد آخر تحاول الثورات المضادة تنصيبه باسم الدين أو الاستقرار أو باسمهما
معاً...
زياد ماجد