يثير مقال رئيس تحرير صحيفة "الرياض" السعودية حول استحسان "عودة لبنان الى سوريا"، رغم اعتذاره اللاحق عمّا كتب، مسألتين هامتين تظهّرهما تصريحات أو كتابات عربية مشابهة تُنشر بين الحين والآخر.
المسألة الاولى سياسية، تستند الى مقولة يتشارك في نسجها بعض القوميين واليساريين والإسلاميين، فيعتبرون أن مشاكل المنطقة في معظمها نتاج ما خطّطت له اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 حين خلقت "كيانات مصطنعة" لإضعاف "الأمة"، ومن بين تلك الكيانات لبنان. وهم إذ يقولون ذلك، يبدون مقتنعين بأن "دول" المنطقة كانت قائمة على نحو "مكتمل" قبل هذا التاريخ، فجرى خلق بلدان على حسابها، أو بأن المنطقة بأكملها كانت في دولة راسخة واحدة، فاقتُطعت أجزاء منها لتشكيل بلدان "وهمية" تتسبّب بالمصائب لبعضها!
والتدقيق في هذه المقولة المجترّة منذ عقود، لا يبيّن تهافتها العلمي فحسب - فبلدان المشرق العربي تأسست بأكثرها عقب الاتفاقية، مع انهيار السلطنة العثمانية - بل يظهر أيضاً تحوّلها الى ذريعة لأنظمة تسعى الى ابتلاع جيرانها بحجة مشروعيات تاريخية وهميّة وبحجج نزع آثار الاستعمار الذي تآمر على "أمّتها".
أما التآمر، فتنسى أن تقول إنه جزء من عملية فرض حدود (لأهداف ومصالح عديدة) في حقبات مختلفة طالت معظم أنحاء المعمورة، من أفريقيا وبعض آسيا الى الأميركيّتين. كما تتناسى أنه امتدّ ليرسّم خرائط في أوروبا نفسها عقب أفول امبراطوريات وتطوّر نظم رأسمالية وصعود قوميات وانفجار حروب...
على أن الأهم من ذلك، أن صراعات الحدود ومزاعم السلخ ومساعي الضمّ أو "الاستعادة" بالقوة لم تتوقف في أي بقعة من العالم إلا حين جرى التركيز على بناء الدول الوطنية الديمقراطية، والبحث - بعد تحقّق السيادة القانونية والسياسية لهذه الدول على كامل أراضيها – عن أفضل سبل التعاون والتضامن والتكامل في ما بينها. أما الهوس بالبحث عن حدود تاريخية وعن أوهام تَوحُّد لم يقم إلا في أزمنة حروب وتوسّع عصبيات قبلية ودينية، فهروب من مشاكل الحاضر وتحدّياته وعثراته نحو تظلّم واستحضار لشعارات لم تجلب غير استبداد يستظلّ بها ويمارس البشاعات بإسمها...
المسألة الثانية ثقافية (وقيميّة)، وهي تلك المفضّلة التسلّط على الديمقراطية، بحجّة تأمينه الاستقرار وضبطه الأمور. وكاتب المقال السعودي أشار الى الحكم القوي في دمشق، مقابل الحكم الضعيف في بيروت ليزيد من مبرّرات دعوته. وقوله هذا يتردّد كلَّ ما أُريد التنظير للاستبداد في المنطقة، أو التخويف من الديمقراطية والحريات بوصفها استدعاءً للفوضى والتسيّب! والمؤسف أن البعض يكرّره ويتبنّاه متناسياً أن "الاستقرار" تحت الاستبداد ما هو إلا نتيجة استتباب أمور القمع والرعب والقتل والسجن والنفي...
هل هذا يعني أن الديمقراطية مسار سهل أو أنه الحل السحري لمجتمعات ودول انبعثت من بنى بطركية وعشائرية وحكمها العسس عقوداً متناسلين انقلابات وحروباً أهلية؟
طبعاً لا. لكن الخيار الديمقراطي يبقى الوحيد الذي يمكن أن ينقل الأوضاع من طورها المأساوي الراهن، الى طور قد يسمح يوماً ما (لسوريا ولبنان وغيرهما) بالتطور والتقدم من دون أوهام ومخاوف ومطامع...
الموضوع هو إذن أبعد من موضوع مقال سطحي ظهر في جريدة، وأعمق من كونه هفوة اعتذر صاحبها على ارتكابها. هو موضوع تخبّط سياسي وثقافي يصيب الكثيرين في المنطقة. وهو تخبّط لم تؤدّ الأزمات والأهوال حتى الآن الى تهدئة روعه، كما لا يبدو أنه سائر نحو السكينة أو الاندثار...
زياد ماجد