Monday, August 17, 2015

الثورة اليتيمة، الثورة المستمرّة

الفقرات التالية هي "خاتمة" كتاب "سوريا الثورة اليتيمة" المنشور في كانون الأول - ديسمبر 2013.

بعد ألف يوم تقريباً من الثورة، وبعد استكشاف بعض القضايا المحيطة بها أو المنبثقة منها، ماذا يمكننا أن نستخلص إن نظرنا الى نظام الأسد والمجتمع السوري والى العالم؟

ممانعة وحداثة وبربرية

وَفّق النظام السوري في خطابه وتقديمه لصورته بين ركائز ثلاث: "ممانعة" يكسب فيها قوميّين ويساريّين ومناهضين للإمبريالية؛ وعداء للإسلاميّين يقرّبه من بعض الدوائر في الغرب ومن العلمانويّين عامة؛ ومظهر حداثي يُبرزه في موقع المتقدّم على محكوميه، ويُرضي به مقلّدين سطحيّين لما يعدّونه "غرباً" أو مدّعي تقدّمية في سوريا نفسها.

واعتمد النظام الركائز إياها لممارسة أقصى درجات التوحّش في سحقه للناس الثائرين عليه. وما بدا ويبدو عشوائياً في عنفه ما هو إلا جانب واحد من مشهد العنف المكتمل. فالتدقيق في تفاصيل هذا المشهد وفي أرقام الضحايا يُظهر ـــ إن خلال المرحلة السلمية للثورة (آذار ــ آب 2011)، أو بعد انطلاق العمل المسلّح واتّساعه بالتوازي مع استمرار النضال السلمي (أيلول 2011 حتى حزيران 2012)، أو بعد تحوّل القتال الى عنصر حاسم في مسار الصراع (منذ تموز 2012) ـــ أنّ لتوزيع العنف من جانب النظام الأسدي خيارات إجتماعية ــ طبقية ومناطقية وطائفية. وهذا يشمل عمليّات قمع  المتظاهرين، وعمليات تعذيب المعتقلين، وصولاً الى عمليّات القصف الجوي والصاروخي والمدفعي، وانتهاء بالمذابح والإعدامات والضرب بالكيماوي. وليس مردّ الإفراط في العنف ضد بعض المناطق الريفية (ومراكزها المدينية) أو ضد بعض ضواحي المدن مرتبطاً بكونها معاقل للثورة ومهداً لها فقط. فبعد شهر من التنكيل بأهل درعا وقرى حوران من باب الانتقام منهم، لمجرّد تفكيرهم بالثورة، ومن باب تقديمهم أمثولة لغيرهم، بدأت خارطة العنف تسابق خارطة انتشار الثورة وتستبق وصول التظاهرات أحياناً مستهدفة، أو بالأحرى مُستسهلة استهداف، الفقراء. فإن استثنينا مدينة حمص، التي ذكرنا خصوصيّتها الجيو ــ مذهبية، نرى أن ضواحي دمشق وريفها ثم المناطق الريفية المحيطة بإدلب وحماه وحمص وحلب وبعض قرى اللاذقية ومخيمّ الرمل فيها ومنطقة دير الزور، كانت منذ البداية الأشد تعرّضاً للقسوة والقتل والتنكيل والترويع. ذلك أن قسماً كبيراً من أبناء هذه المناطق وبناتها هم من "المُستخفّ اجتماعياً" بهم. فمنهم يأتي عمّال مياومون وصغار موظّفين في المدن، ومنهم تأتي نسوة عاملات في التنظيف المنزلي، وبينهم يعيش مزارعون وبائعو خضار. ومظهر هؤلاء جميعهم محافظ، وملبس كثرة منهم تقليدي، ما يجعل المخيّلة "العنصرية" (البلهاء) طبقياً واجتماعياً لكثر من أنصار النظام (أو "الصامتين" والخائفين) تستغرب خروجهم مطالبين بالحريّة متمسّكين بالكرامة. فكيف لقوم مثلهم أن يتظاهروا مطالبةً بقيمة "حداثيّة" (منظور إليها بوصفها "غربيّة") وهم يرتدون ملابس أقل ما يقال فيها إنها منافية للمظهر الحداثي؟ أكثر من ذلك، كيف لهم أن يطالبوا بالحريّة وهم الأكثر "محافظة" في مجتمعهم (وتحجّباً) والأكثر "ارتباطاً دونياً" بأرباب العمل وأرباب السلطة؟

يضاف الى هذا أن العنف إذ يصيب الفقراء بمظهرهم المحافظ قد يُحدث مقداراً أقلّ من الانفعالات العاطفية تجاههم لدى من لا يجد فيهم ما يُشبهه. وهم أصلاً يتعرّضون دورياً له في حياتهم وشقاها، كما أنهم ضحايا لظلم اجتماعي لا يثير بالضرورة تضامن الطبقتين الوسطى ــ العليا والغنيّة المدينيّتين معهم. وأن يكمله إطلاق نار وصواريخ من جيش ومخابرات لحماية "دولة عصرية"، فالأمر مدعاة شماتة في أوساط الموالين، أو إن لم يبلغ حدود الشماتة، فتِرداد لوم الضحايا على "ما جنوه على أنفسهم" سائدٌ في نفس الأوساط.

ويُعطف على الاستهداف المذكور، المبني على استسهال قتل الفقراء، استهداف آخر غير مستقلّ عنه تماماً، يرتبط بالمسألة الطائفية. فليست صدفة أن يكون ضحايا القصف والقتل والمجازر بأكثرّيتهم الساحقة من السنّة (الريفيّين) أو سكّان الضواحي. ذلك أن الأمر يرتبط بثلاثة عوامل: الأول مباشر، ومردّه أن قاعدة الثورة الحربية (المقاتلة) هي بشكل أساسي سنيّة طرفيّة. الثاني غير مباشر ويرتبط بما أراد النظام تظهيره وكأنّه "صراع بين كتلتين على السلطة: كتلة سنيّة وأخرى علوية". وهو، بعدَما كان يتجنّب الموضوع الطائفي علناً في السابق حرصاً على علاقاته العربية وعلى صورته "كنظام وطني"، لعب به لاحقاً وعلى نحو سافر ليس لاستقطاب الأقليّات وشدّ عصب الطائفة العلوية فحسب، بل أيضاً لتدهور علاقاته مع بعض حلفائه السابقين (تركيا وقطر وقبلهما السعودية)، ولتخويف المسيحيين من الأكثرية السنّية في لحظة تقدّم في كامل المنطقة لجماعة الأخوان المسلمين وغيرها من قوى الإسلام السياسي. وفي هذا ما لا يرى فيه تناقضاً مع "ادّعائه العلماني". فأقلّيته التي لا تُخيف ديموغرافياً، هي أيضاً أقلّية لا قدرة لها على الهيمنة دينياً، وتسلّط أفراد منها وجماعات هو تسلّط سياسي ومافياوي ــ مخابراتي. وبالتالي حتّى لو وظّفها في المعركة فستبدو مدافعة عن نظامه "العلماني" في وجه قوى سنّية (متشدّدة). السبب الثالث، وربّما الأهم، أن النظام يقتل من السنّة الريفيّين لأنهم تحديداً "أكثرية". فالأكثريات في عالم اليوم تبدو كأنّها لا تستجلب خشية على مصيرها مثل "الأقليّات" التي يُعدّ تعرّضها للتهديد أو للقتل مدعاة استنفار حفاظاً على "وجودها". والنظام السوري الخبير بالعنف ومسالكه أدرك هذا الأمر منذ البداية. فأن يموت عشرات الألوف من السنّة وهم الملايين في سوريا وعشرات الملايين في المشرق (وقرابة المليار في العالم!) فالأمر ليس تهديداً وجودياً لجماعة بحالها. والتسنّن هو مذهب العامة ممّن يُثيرون الخوف أو الريبة لدى مذعوري الأقلّيات ولدى الحريصين على "مفهوم التنوّع والتعدّد" الإثني والديني في المنطقة. كما أنه المذهب الذي تبدو الحركات الدينية المنبثقة منه الأشدّ تطرّفاً، ولصورتها النمطية في أكثر أوساط الرأي العام في الغرب وقعٌ سلبي يربط أنظمة الخليج العربي بأسامة بن لادن، ويربط الطالبان بأبي مصعب الزرقاوي، ويعرّج على شبّان "التعصّب" وأزمات الهوية والاندماج في ضواحي المدن الغربية نفسها.

وفي المقاربة الطائفية ــ السياسية إياها، يظهر جليّاً أن النظام لم يُمارس العنف بجرعات عالية ضد الأكراد والاسماعيليين والدروز مثلاً في تظاهراتهم، على الرغم من أن مدناً مثل عامودا والقامشلي وسلميّة، والى حدّ أقلّ السويداء وبلدات من جبل العرب، شهدت تظاهرات واعتصامات كان بعضها حاشداً ودورياً. مع ذلك، قنّن النظام عنفه ضدّها ضمن مقاربة "قضية الأقلّيات" كي لا يترك مجالَ تكذيب لروايته الرسمية حول "التطرّف الإسلامي" و"العصابات المسلّحة والجهاديّين". كما أنه في "المسألة الكردية" بلور استراتيجية قامت على منح جنسيات كانت ممنوعة طيلة عقود على الأكراد، وترك (كما أسلفنا في الفصل الثاني) لبعض قواهم المسلّحة الانتشار في مناطق واسعة في الحسكة من دون صدامات، ما عنى أيضاً التسامح مع احتمالات استفادتها من النفط ومن إدارة معابر مع العراق وتركيا (ليحيّدها أكثر عن الصراع المسلّح معه).

بهكذا فاشية واجه النظام السوري الثورةَ[1]، ووظّفها في معركة أنفق الإيرانيون ملياراتٍ لدعمها وغطّاها الروس (ومعهم الصينيّون) وانحاز إليه فيها يساريّون غربيّون ويمينيّون عنصريّون وعلمانيّون دعاة مناهضة "للتطرّف الإسلامي". وبنيران هكذا فاشية، قُتل عشرات ألوف الناس المكافحين في سوريا وعُذّب الملايين، واستمرّت الثورة.

تمّام عزّام (ولؤي كيّالي)

الثورة الجذرية

قد يكون واحدٌ من أسباب صمود الثورة السورية حتى الآن أمام آلة القتل المهولة المسلّطة عليها هو مقدار الجذرية في ما تنطوي عليه: ليس في اللغة والشعارات وتفجّر الطاقات الإبداعية كلّها فحسب، بل كذلك في عمليّة الهدم التي ترافقها لكل المنظومات التي سحقتها لعقود وللشعارات التي برّرت (رياءً) ذلك السحق. وهي لذلك "تنعف" مجتمعاً وتُخرج أحشاءه. وفي هذا أيضاً واحد من مكامن خطورتها، إذ صار فيها اليوم عنف بمقدار ما كانت فيها طاقة على احتمال العنف المسلّط ضدّها ونبذه قبل ألف يوم. فبين أحمد البياسي (الذي أعلن في العام 2011 مواطنيّته وأظهر بطاقة هويّته لينفي نفيَه من بلدته البيضا حين ادّعى إعلام النظام أن مشهد الدوس على رؤوس الناس ــ وأحمد منهم ــ لم يكن في سوريا) وبين آلاف الشبّان الجاهزين للموت والقتل على الجبهات وفي مواجهة الطائرات والصواريخ في العام 2013 مسافة قطعها جزء من السوريّين بسرعة، وليس من المؤكّد بعد ذلك أن يعودوا بنفس السرعة الى المسالمة والبحث الهادئ في عدالةٍ وحقوق إنسان لم يطعنها النظام الفاشي وحده (وهو تعريفاً عدوّها اللدود ولهذا ثاروا عليه)، بل طعنها معه العالم الذي شاهد مقتلة على مدى أشهر طويلة وتمنّع عن وقفها، بحجّة الخوف من بدائلها أو من التطرّف الذي قد يأتي بعدها!

العالم الميت

لا ينفع في السياسة التحسّر على الفرص الضائعة. لكنه ينفع في تفسير تفاقم الحالات وتعقّدها، وينفع أيضاً في تبيان "النبوءات الذاتية التحقيق" التي يُطلقها أطراف عن خوف أو عن رغبةِ تحقُّقٍ للكوابيس.

ولعلّ ما جرى في سوريا هو مزيج من النبوءات المذكورة ومن سوء التدبير في المقاربات الديبلوماسية ومن صعوبة اللحظة السياسية التي شهدت صراعات إقليمية وعالمية انعكست سلباً على أكثرية السوريّين، إن لجهة حجب الأسلحة النوعية عن ثورتهم ليدافعوا عن أنفسهم (ويقلّصوا الأضرار)، أو لجهة التمنّع عن تحريك الملفّات القانونية ضد النظام  حتى بعد مجزرته الكيماوية التي يتمّ التطبيع مع حصولها بعد بدء برنامج إزالة أدواتها، أو لجهة الاستمرار في التشكيك بأن إسقاطه لو جرى تعجيله لَقصُر أمد الصراع وتراجعت أعداد ضحاياه.

وإن كانت تعقيدات العلاقات الدولية وأخطاء التقدير المتراكمة يصعب فعل الكثير تجاهها اليوم، غير أن لا شيء يبرّر في المقابل العجز أو المماطلة أو عدم الاكتراث تجاه المأساة الإنسانية التي تلتهم السوريين والسوريات كباراً وصغاراً بفعل النزوح أو القصف والمجازر ووصول الجهاديين الظلاميين، وبفعل المجاعة والأوبئة التي يفرضها النظام على مناطق بأكملها لدفع أهلها الى الاستسلام أو التحوّل أشباحاً تبحث عن النجاة لا أكثر.

لا عذر للعالم تجاه ما يجري وسيجري في سوريا وفي المهاجر ــ المنافي حيث التشرّد واللجوء، ولا في البحر حيث اليأس أو الغرق. ولا عذر لعالم لا يتدخّل ضد "همجيّة النظام" بحجة تفضيلها على "همجية الجهاديّين" (حاجباً بهم ملايين السوريّين)، لأنه إذ يتمنّع يحصل حينها على الهمجيّتين[2].

الثورة اليتيمة

ليس في الثورات حساب ربح وخسارة يحكم الفرضيّات والاحتمالات. فالثورات تقوم غالباً في وجه المستحيل، وبمجرّد قيامها واستمرارها تحقّق جزءاً من أهدافها: عودة الناس الى الحرّية، الى الحياة والى تملّكها ولَو كان الموت المفروض أحياناً ثمناً لذلك. والثورة السورية حقّقت، بهذا المعنى تحديداً، الكثير حتى الآن رغم اليتم ودروب الآلام الكثيرة... ولا يبدو في أي حال أنها ستتوقّف.

زياد ماجد، "سوريا الثورة اليتيمة"، دار شرق الكتاب، بيروت 2013



[1]  يقدّم مقالا ياسين الحاج صالح "في الجذور الاجتماعية والثقافية للفاشية السورية" و"في الشبّيحة والتشبيح ودولتهما" المنشوران في العددين 5 شتاء 2012 و7 صيف 2012 من مجلة "كلمن" تحليلاً معمّقاً لما تحمله فاشية النظام الأسدي من تسلّط مطلق وفراغ قيمي وفكري وحداثة ظاهرية مفرغة من معنى الحداثة نفسها، متلازمة مع ممارسة حادة للعنف ولخرق القانون والتباهي بهذا الخرق وسحق المعترضين عليه.
[2]  حاجج فاروق مردم بك في نصّ (منشور في 26 أيلول 2013 في موقع ميديابارت) بعنوان "في مواجهة البربريات من الضروري التدخل في سوريا" ضد فكرة أن إسقاط بشار سيأتي بالجهاديين وقال إن عدم إسقاط بشار سيعرّض سوريا لبربرية بشار والجهاديين على حدّ سواء.