يمكن التوقّف عند الكثير من الأمور في الكلمة المتلفزة للسيد حسن نصر الله في "يوم القدس". ويمكن التعليق على تأكيده القدرة "على دخول بيت المقدس بالباصات والفانات" ما أن يُباد نصف الجيش الإسرائيلي إن حاول دخول لبنان. ويمكن أيضاً الالتفات الى تفسيره أسباب فشل المفاوضات السورية الاسرائيلية عام 2000 وما إذا كانت الأمتار المحيطة ببحيرة طبريا هي السبب الفعلي أم لا، كما يمكن الخوض في نقاش حول تقييمه للأوضاع الإيرانية الداخلية التي ادّعى خبرة في فهمها ومعرفتها.
لكن ما نريد التعقيب عليه لا علاقة له بكل ذلك. هو ببساطة مرتبط بما كرّره السيّد نصر الله من استخدام لعبارة "حلّو عَنُن" في معرض مخاطبته من لا يساندون "المقاومة" (أي حزب الله) في لبنان.
فقد اعتبر، مشكوراً، أن الناس أحرارٌ في عدم دعم حزبه (واستطراداً نظامي طهران ودمشق إذ أعلن تشرّفه بالانتماء الى محورهما)، لكن عليهم بالمقابل أن "يحلّوا عنه"، أي أن يتركوه وشأنه.
أما شأنه، فليس سوى التصرّف بقراري الحرب والسلم في لبنان (ولو من موقع الدفاع عن النفس)، وبقراري الاستقرار والدمار (الخاصين بالناس إياهم المفترض أن "يحلّوا عنه")، وطبعاً وفقاً لتطوّر الأمور في المنطقة ككل.
وقضية "الحلّ عن" حزب الله هذه، تعكس أمرين.
الأول، ثقافة تناقض في الجوهر فلسفة التعاقد السياسي والاجتماعي في بلد ما، وتناقض بالكامل فلسفة الدولة ومعاني سيادتها في أي بلد بالمطلق.
ذلك أن كل تعاقد يتطلب تشاركاً في مختلف الأمور، موافقةً أو رفضاً وسعياً للتغيير أو التعديل. وفي كل الحالات لا مجال لترك أحد وحاله. كما أن أي وجود لدولة يقتضي سلطة لها ودوراً لا يمكن التعاطي معه في أبسط الأمور على قاعدة "الحلّ عن". فكيف إذا كان الموضوع هو الأخطر على الإطلاق، أي الصراع المسلح!
والأمر الثاني مرتبط بمناقضة "الديمقراطية التوافقية" التي لا ينفكّ السيد نصر الله ومسؤولو حزبه يشدّدون عليها هذه الأيام. وهي تعني بالنسبة إليهم مشاركتهم في كل أطر صنع القرار في المؤسسات، وحصولهم على "الثلث الضامن" في السلطة التنفيذية. لكنهم، حين يصل الأمر الى السياسة الخارجية أو شؤون الحرب والسلاح، ينسون أن ثمة ديمقراطية وأن ثمة توافقاً، ويعلنون أن "المقاومة" وحدها تخطّط وتقرّر وتنفّذ، وما على الباقين (ولو كانوا قسماً كبيراً جداً من اللبنانيين) إلا أن ينصاعوا لخياراتها أو يتركوها وحالها.
هو الانتقاء إذن، وهو يذكّر بانتقاءات أخرى قام بها السيد منذ فترة، متناقضة في ما بينها، ومناقضة أيضاً للديمقراطية التوافقية التي "يتمسّك" بها (من الحديث عن أكثرية شعبية مقابل الأكثرية البرلمانية بعد خسارته الانتخابات، وما في هذا من مخالفة لأبسط قواعد الديمقراطية التوافقية - وكل الديمقراطيات الانتدابية - الى الحديث عن حكم الأكثرية ومعارضة الأقلية شرط إقامة انتخابات جديدة، وكان ذلك إيام تركيزه على "الأكثرية الوهمية" وعلى "السلطة غير الشرعية" قبل أعوام قليلة)...
في أي حال، لا تبدو الفائدة كبيرة من المساجلة مع مقولات تبسيطية تنطلق من فهم خاطئ للمفاهيم والمصطلحات. ومن الأفضل ربما الاكتفاء بالتذكير بأن لبنان المنكوب بجغرافية سياسية تمارس الضغط الدائم عليه، محكوم بصغر حجمه وبتداخل ديموغرافيته الطوائفية وبتجاور قواه المجتمعية والسياسية المختلفة. وهذه وتلك لا تبدو مهيّئة "لتحلّ عن بعضها" أو "تفلّ" أو تترك أحداً يتصرّف بمصائرها وحيداً. ومن الضروري، بالتالي، البحث عن سبل أخرى (سلمية طبعاً) لتسوية الخلافات حين تنشب بينها...
زياد ماجد