Tuesday, November 24, 2009

مصر - الجزائر... فرنسا - إيرلندا

شهد العالم الأسبوع الماضي مباراتي كرة قدم عبّرت أحداثهما وتداعياتهما عن قضايا سياسية وأخلاقية خطيرة وعن علاقة تزداد التباساتها بين الإعلام وبين اللعبة الأكثر شعبية وانتشاراً في العالم، وبالتالي الأكثر قابلية للاستغلال والتوظيف على مستويات عديدة.

المباراة الأولى كانت مباراة العبور الى كأس العالم عن القارة الإفريقية، وجمعت المنتخبين المصري والجزائري. والاهتمام بها وبما عنته جاء نتيجة ما سبقها ورافقها وتلاها من تراشق سياسي وإعلامي وديبلوماسي بلغ حدود الهيستيريا بين الدولتين و"إعلاميّيهما"، ومن صدامات بين شعبيهما في القاهرة والجزائر والخرطوم.
أما المباراة الثانية، فجمعت فرنسا وجمهورية إيرلندا، وحصل أن تأهّلت فرنسا بنتيجتها الى كأس العالم عن القارة الأوروبية "بفضل" خطأين تحكيميّين جسيمين وقعا في ظرف ثانيتين في الدقائق الأخيرة من المباراة من ناحية، ونتيجة مخالفة ارتكبها لاعب فرنسي للمسه الكرة عن عمد والتحكّم بها بيده قبل تمريرها الى زميل له ليسّجل منها هدف فريقه من ناحية أخرى. وسمحت الإعادة التلفزيونية البطيئة للوقائع المذكورة لمئات ملايين المشاهدين خلف الشاشات ولعشرات الكتّاب والمعلّقين والسياسيين والقانونيين بالبحث في العلاقة بين الرياضة والأخلاق، وبين الغاية والوسيلة، وبين الكاميرا واللاعبين، وبين كرة القدم ومموّليها وجمهورها.

المباراة الأولى كانت هامشية في مجرياتها الرياضية المفضية انتصاراً جزائرياً، مركزية في ما أحاط بها من عنف، ومن صخب وكراهية تصاعدا في انفعالات متلفزة ليست بعيدة عن الانفعالات الشعبية وعن المشاعر "غير الودّية" القديمة المتبادلة بين فئات واسعة من المصريين والجزائريين. فكثر من الجزائريين يحقدون على سياسات التعريب التي انتُهجت بعد الاستقلال الوطني والتي أرسل الرئيس عبد الناصر أساتذة تعليم لتطبيقها في مدارسهم، ويقولون إن الأساتذة كانوا بغالبيّتهم "إسلاميين" معدومي الكفاءة تخلّص الرئيس المصري من متاعبهم فصدّرهم بقِيَمهم المتزمّتة (وبمتاعبهم طبعاً) الى الجزائر. وكثر من المصريين يشعرون بعقوق جزائري تجاه دعم مصر الاستثنائي لحربهم التحريرية، وبشيء من الاستعلاء "الفرعوني" في التعاطي مع بلد أقل مركزية في الثقافة وفي الوعي العام العربيّين. هذا مع العلم أن مباراتي المنتخبين عام 1989 (تأهلّت مصر بنتيجتهما الى كأس العالم 1990 في إيطاليا) شهدتا نفس الجنون والصدامات بين الجمهورين وحتى بين اللاعبين. لكن الفضائيات العربية كانت قليلة وقتها (وكان انتشار الانترنت شبه معدوم)، والتوظيف السياسي والتجاري عبرها كان بالتالي محدوداً.


وإن أضفنا الى ما ذُكِر، استغلال قادة البلدين لحدث رياضي يجذب اهتمام الملايين من أجل التعبئة الوطنية والسعي الى قطف ثمار إنجاز لم يستطيعوا جنيه في أي من ميادين اختصاصاتهم الأصلية، أي إدارة كل من مصر والجزائر سياسياً واقتصادياً وضمان استقرارهما وعمرانهما وتشغيل أبنائهما، وقعنا على تغذية مَرضيّة للتوتر، تبارى في تظهيرها الإعلام وتسابق على التطرّف فيها عدد من صحافيي البلدين.
على أن ما ينطبق على مصر والجزائر، يمكن أن ينطبق على أغلب بلدان منطقتنا، إن لم نقل جميعها.
ذلك أن عطف الشوفينيات الوطنية وعنصرياتها على الإخفاقات والخلافات السياسية و"الجيرة" المقلقة يجعل كل مباراة حساسة بين منتخبين عربيين ميداناً للصراع والصدام بين بلديهما. فمباراة بنفس الأهمية "الرياضية" بين الجزائر والمغرب كان يمكن أن تتسبب بنفس الشحن والتوتّر (وربما أكثر، نتيجة الحدود المشتركة والنزاع الصحراوي). ومباراة بين الكويت والعراق أو بين لبنان وسوريا أو حتى بين قطر والبحرين أو السعودية والأردن أو لبيبا وتونس، يمكنها بدورها أن تتسبّب بحملات تُخرج مكنونات الكراهية والتنابذ القائم بين العرب "الجيران"، ويمكن أن تتحوّل أدوات إعادة تكوين مشروعيات للأنظمة الحاكمة بوصفها مواقع عزّة وعنفوان في وجه "الخصم المتهجّم أو المتطاول"، تُنسي الهوان والتهتّك في مجالات وطنية لا تعدّ ولا تحصى...

المباراة الثانية، بين فرنسا وإيرلندا، كانت مثيرة أيضاً. لكن إثارتها لم تأتِ نتيجة العنف والتعبئة "القومية"، بل نتيجة رمزية مجرياتها ودلالاتها. ذلك أن دور الحكّام في الملعب هو في فلسفته صنو دور الدولة في سعيها الى تطبيق القانون وحماية اللاعبين من بعضهم واحتكار الحق في معاقبة المخالفين منهم وِفق معايير وأنظمة واحدة تطبّق على الجميع، مما يتيح التنافس الشريف ويسمح بجعل اللعب (وهو بهذا المعنى مرادف للحياة) نظيفاً وممتعاً يبذل كلٌ جهده فيه للكسب والتحصيل، ثم يقبل في النهاية بالتعادل أو بالخسارة طالما أن شروطهما لم تجحفه ولم تجافِ القوانين التي يُفترض أن يحترم. وقد فشل الحكّام في تأدية هذا الدور خلال المباراة في باريس، على ما بيّن الإعلام وكاميراته، إذ تغاضوا عن - أو لم ينتبهوا الى - وجود لاعبَين فرنسيين متسلّلين خلال نقلة كرة وصلت بعد ثانية الى يد مهاجم فرنسي فتحكّم بها على دفعتين "بعيداً عن أعين الحكّام" قبل أن يرسلها الى زميل له ليسجّل هدفاً ويقصي الإيرلنديين عن حلم كأس العالم.
وبالتالي، يُضاف الى فشل الحكّام في تطبيق القانون خلال المباراة، لجوء لاعب الى الغشّ لتحصيل كسب على حساب عرق منافسيه ونشاطهم الذي تفوّق على نشاطه. وهذا يطرح البعد الأخلاقي في الرياضة وفي ازدياد حالات "الزعبرة" والتلاعب فيها، ويقلق التربويين عن حق، لأن ما تنقله الكاميرا يصبح قاطرة قيَم لكونها قبلة الملايين من الناس، وخاصة من أبناء الجيل الجديد، ونتيجة جذبها المليارات من الأموال إعلاناتٍ ورعايات ومؤسسات وصفقات انتقال نجوم ومنافسات مناطقية ودولية، وطبعاً سياسية.


وإذ يتبنّى أنصار نظرية المؤامرة المالية مقولة إن الحكام ومن خلفهم "الفيفا" تغاضوا عن احتساب الخطأين لتفضيلهم حضور الفرنسيين (65 مليون "مستهلك" سيشاهدون فريقهم والإعلانات التي تمرّ خلال مبارياته) على الإيرلنديين (4 ملايين)، يرفض آخرون الأمر ويقولون إن إخراج سلوفينيا لروسيا (في مباراة كانت تجري في الوقت عينه) كفيل بضحد هكذا مقاربة "اقتصادية – ديموغرافية".
وبمعزل عن هذا الأمر، لا شك أن سوء التقدير التحكيمي ضربة كبيرة للّعبة تزداد مواجعها كل ما تطوّرت التنقنيات التصويرية وتزايد عدد المتحلّقين وراء الشاشات. ولا شك أن الغش والسقوط الأخلاقي لأحد اللاعبين مسألة ينبغي التركيز عليها كي لا يُغري "النجاح" الناجم عنها على الاتّعاظ بها، فتتماهى عندئذ الرياضة ببعض ميادين الحياة حيث التنافس غير الشريف يحسم الأمور ويحيّد القوانين ورعاتها...

حدثان إذن، امتلأت الشاشات والصحف ومواقع الانترنت في تغطيتهما، ناقلة أهمية ما يمثّلانه، ومضخّمة إياها أحياناً جاعلة منها مادة هوس ومتابعة يومية.
حدثان على قدر كبير من القباحة. لكنّهما الى هذا الحد أو ذاك يعكسان طبيعة قباحات موجودة هنا وهناك؛ قباحات هي في أي حال جزء من المشهد "الإنساني" الأعمّ وما فيه من بشاعات تُجاور الجماليات التي لا تنتهي...
زياد ماجد