تبدو السياسة في لبنان منذ أشهر سائرة على إيقاعين مختلفين: إيقاع مصالحات تدّعي طيّاً لصفحة السنوات الخمس الماضية وما حوته من أحوال وأهوال وتحالفات وتجمّعات لم يسبق للبنان أن عرف ما يماثلها في تاريخه، وإيقاع انتخابات طلابية ومهنية ونقابية تستكمل الفرز الذي شهدته السنوات الخمس نفسها وتؤكّد عمقه وصعوبة تبديله بقرارات حتى ولو كان متّخذوها شديدي التأثير في جمهورهم وفي مواقفه واتجاهاته.
هكذا، تبرز صورة الاجتماع اللبناني - لدى فئات عمرية شابة، ولدى منضوين من أعمار مختلفة في أجسام نقابية ومهنية - على عريها: انقسام عامودي واستمرار لمعسكري 8 و14 آذار قاعدياً، بعيداً عن الخطابات الفوقية، أو ربما تعبيراً عن المواقف الفعلية (الضمنية) لقوم "فوق" حيث التقيّة صارت اختصاصاً لا يشذّ عنه سوى قلائل.
أكثر من ذلك، توحي الصورة بأن الإيقاعين المختلفين فوق وتحت، يسيران أيضاً في اتجاهين متعاكسين. ففي حين يستمر (ما تبقّى من) معسكر 14 آذار في تراجعه في السياسة وفي إدارتها (لأسباب صارت مذكورة في أكثر من موضع)، يستمر جمهوره في التقدّم انتخابياً إن على مستوى الجامعات، أو على مستوى نقابات المهن الحرة المؤثرة في الرأي العام وصناعته، والمتأثّرة به.
والأمر نفسه يسري على معسكر 8 آذار. فتقدّمه وضبطه شروط اللعبة السياسية وتوازناتها لصالحه، لم يقابله سوى تراجع انتخابي له في المواقع المذكورة يبدو تكريساً على "الأرض" لما جهد ويجهد (بنجاح) لمحو آثاره "فوق": صناديق 7 حزيران 2009...
طبعاً. فبالإضافة الى التعبئة التي لم تنتهِ مفاعيلها، والحنين الى التعاضد والى أمان الانتماء الى جماعات عريضة، وبالإضافة الى ذاكرة الدم المراق الحية في أكثر من مكان وموضع، ثمة عنصر تماسك "مادي" لن ينجح أحد في نزعه، ولن يكفي تصدّع 14 آذار لإسقاطه: رفض السلاح غير الشرعي وتحالفاته الإقليمية.
وهذا الرفض، سيبقى في المدى المنظور منطلق الفرز الأول في لبنان، من عائشة بكار الى عاليه، ومن زحلة الى صور، ومن الشياح الى التبانة وجبل محسن. وهو سيزداد مركزيّة "تحت" كلما تجنّب "الفوق" نقاشه بهدوء وحكمة وحزم...
زياد ماجد