يستوي طرح إلغاء الطائفية السياسية بأكثر الردود القائمة اليوم عليه.
فالطرح والردود تنطلق غالباً من مقولتين تسطيحيّتين للمسألة الطائفية، تحوّلها الى مجرّد مادة سجال ومزايدة يبدو الهاجس الوحيد فيها ديموغرافياً، إذ يستقوي بها – ويهدّد بتطبيقها – من يرى في عديد طائفته حصانة لموقعه، وينبذها ويندّد بها من صار حضوره في ضمور...
على أن الموضوع، رغم مشروعية المخاوف الرقمية التي يبثّها، أبعد من كونه مادة سجال حول مؤدّياته السياسية المباشرة وما قد تعنيه من انتهاء للمناصفة في المناصب في الدولة بين المسلمين والمسيحيين، بمعزل عن الأحجام وسجلات النفوس وإخراجات القيد.
فالبحث في الطائفية هو بحث في مجموعة عناصر سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية تكرّست في العقود الماضية وصارت ناظمة للحياة العامة (وأحياناً الخاصة) في لبنان.
والطائفية بهذا المعنى مؤسسة قائمة في ذاتها، وقائمة أيضاً في شبكات من العلاقات في المجتمع وفي الدولة لا ينفع معها التبسيط اليساروي المعتبر إياها حدثاً عارضاً في السياق اللبناني أو وسيلة للتعمية على الصراع الطبقي. ولا ينفع معها كذلك المنحى شبه الثقافوي الذي طالما اعتمده ما سُمّي يوماً باليمين المسيحي والمعتبر إياها علّة وجود لبنان وصنو ديمقراطيته وحماية أقلّياته.
فالطائفية تعليم وتربية وأماكن إقامة مفروزة، وهي أحوال شخصية وشهادات في المحاكم، وأنشطة رياضية وكشفية، ومجالس ملل ومحاكم شرعية تصدر قرارات وتمارس رقابة وتندّد بكتب وبرامج فنية. وهي أيضاً مناصب عليا في الدولة ومواقع في الإدارات تتحول زبائنية ومنافع. وهي قانون انتخاب وتوازنات بين السلطات ورمزياتها، كما هي أمن بالتراضي واختصاصات "وطنية" بالمقاومة أو بالإعمار أو بالسيادة. من دون أن ننسى أنها صراع على التاريخ وتأويلاته، وعصبيات استقطاب وعنف ودفاع عن مصالح وعن مخيلات جماعية، وعن خيارات خارجية وتموضوعات إقليمية.
وإذا صحّ في فترة القول إن التوازن بين الطوائف منع نزوع بعض النخب في الطوائف إياها الى السعي للاستئثار بمقدّرات البلد جميعها على نحو ما جرى ويجري في دول الجوار العربي، فيصحّ أيضاً القول إن الاستئثار نجح رغم ذلك - وعلى دفعات ومراحل - في إدارة الطوائف من داخلها واستنفارها في مواجهة بعضها. فشعارات "توحيد البندقية" أو "وحدة الصف" أو "الالتفاف حول المقاومة" عبّرت كلٌ منها في فترة عن تحوّل الاستئثار سبيلاً لإلغاء المنافسين ثم لمواجهة الآخرين وتحصيل القدر الأعلى من "الحقوق" منهم وعلى حسابهم.
وما يجري طرحه اليوم، إذ لا يبحث في أي من القضايا الأساسية المتعلقة بالطائفية، لا يخرج كثيراً عن السياق السياسي المذكور، المتصل بالتبسيط والاختزال، والمستند أساساً الى منطق استئثار.
فمن يطرح إلغاء الطائفية السياسية هو وأنصاره أكثر ممارسيها تشدّداً في الدفاع عن مواقع طائفتهم "المحرومة والمستضعفة والمقاومة والمستهدفة من الداخل والخارج" على ما يقولون. وهم إذ صاروا يعطفون على طرح الإلغاء تمسّكاً مرحلياً بالديمقراطية التوافقية، وبالسلاح (!) يبدون كمن ينشئون ابتزازاً جديداً مفاده "اقبلوا بالمثالثة التي يؤمنها حق الفيتو في الديمقراطية التوافقية، أو سيروا في إلغاء الطائفية السياسية ولنر من عدد مناصريه أكبر وليأخذ كلٌ حق طائفته وفق عدد الأيادي التي تريده"...
والأنكى، أن بعض من يرفض طرحهم، إنما يعزّزه في ردوده عليه، فيبدو كمن يدافع عن مجد غابر وعن نظام مأزوم، مناقضاً نفسه بنفسه. فعوض التركيز على الدستور وعلى ضرورة الاتعاظ من تجارب العقود الأربعة الاخيرة وحروبها وصراعاتها والبحث في سبل إصلاح النظام (إن بقي للإصلاح معنى)، تراه يتخلى عن التوافقية داعياً الى "الاكثرية" البرلمانية، ثم يتمسّك بالطائفية داعياً الى احترام التعددية والمناصفة "التوافقية"! وهو في الحالين يبدّد فرصة تصويب النقاش، والرد العقلاني والمسؤول على من يستلّ العدد سلاحاً ويعطف عليه غالباً سلاحاً أمضى أثراً منه، هو السلاح نفسه!
زياد ماجد