في 9 كانون الأول/ديسمبر الفائت، هاجم
مسلّحون "مركز توثيق الانتهاكات" في مدينة دوما في الغوطة الشرقية
لدمشق، وخطفوا أربعة من المسؤولين عنه: المحامية والكاتبة رزان زيتونة، الناشطة
والمعتقلة السياسية السابقة في سجون النظام السوري سميرة الخليل، الناشط والمعتقل
السابق وائل حمادة، والمحامي والشاعر ناظم حمادي. ومنذ ذلك اليوم لم يُعرف عن
المخطوفين الأربعة شيء، ولم يُعلن طرف مسؤوليّته عن عمليّة الخطف أو يطالب بمقايضة
أو بأمر يُفضي الى إطلاق سراحهم.
قد تبدو حادثة خطف لأفرادٍ
أو اعتداء على جمعية حقوقية في سوريا شأناً عادياً أو حادثاً لا يُثير الاستغراب
في ظل المآسي الإنسانية والأوضاع الأمنية والمعيشية البائسة. وقد تبدو أيضاً مسألةً
هامشية في سياق معركة كبرى تدور فوق أرض سوريا بين قوى ومعسكرات متعدّدة المرجعيات
الداخلية والخارجية.
لكنّها ليست كذلك. وثمّة
أسباب ثلاثة على الأقلّ تجعلها استثنائية في خطورتها ومدلولاتها، وتبرّر بالتالي
جعل الوصول الى نهاية لها عبر إطلاق سراح المخطوفين أولويّةً مطلقة ومطلباً ملحّاً
تجاه القوى المعارضة السورية القادرة على التدخّل وتجاه الدول أو الجماعات الداعمة
لها.
الأمر الأول، هوية المخطوفين
وعملهم في المركز وأدوارهم السياسية والثقافية والاجتماعية. فرزان وسميرة ووائل
وناظم في سيَرهم الشخصية وكتاباتهم جسّدوا أجمل ما في الثورة السورية من شجاعة
وعزم ومسؤولية وتوثيق للأحداث. وجسّدوا كذلك في إقامتهم تحت الحصار في الغوطة على
مدى أشهر طويلة بعد أن عاشوا في الخفاء أكثر من عام ونصف داخل دمشق (اعتُقل خلالها
وائل من قبل المخابرات الجوية) معنى الالتزام بقضايا مجتمعهم، ومشاركته آلامه
وتعبه وجوعه وصموده. ورزان زيتونة المحامية التي كانت منذ العام 2001 بين ندرة
محامين تتولّى الدفاع عن المعتقلين والموقوفين في السجون الأسدية (وبينهم
إسلاميّون سلفيّون) لعبت العام 2011 الدور الأبرز في تأسيس "لجان التنسيق
المحلية" (الجهة المدنيّة الفاعلة في العمل الإعلامي اليوم بعد أن كانت من
الأكثر فاعلية في تنظيم المظاهرات وتأمين المساعدات الطبية في العام الأول
للثورة)، وقبلها وبعدها في الكتابة عن يوميّات السوريّين وعن قضايا الحرّيات وحقوق
الانسان في أكثر من موقع وصحيفة. كما أنها من مؤسّسي "مركز توثيق
الانتهاكات"، المصدر الأكثر مصداقية في رصد الأوضاع الميدانية لجهة انتهاكات
القوانين في سوريا، والأرشيف الأدقّ لمنع النسيان من ابتلاع أسماء المعتقلين
والشهداء منذ اندلاع الثورة وحتى اليوم. وسميرة الخليل، المعارضة التي أمضت 4
سنوات في سجون الأسد الأب لالتزامها السياسي حين كان أكثر السوريّين لا يجرؤون على
المجاهرة بمعارضتهم، والمشاركة في الثورة من بداياتها، وشريكة حياة ياسين الحاج
صالح، الكاتب السياسي والسجين السابق الذي أمضى 16 عاماً في السجون الأسدية، عملت
مع رزان والمجموعة في التوثيق وفي الإشراف على مركز تدريب للنساء، وكتبت طيلة
إقامتها في الغوطة تدوينات يمكن اعتبارها سيرةً موازية للثورة ولناسها ولمعاناتهم
اليومية تحت قصف البراميل والجوع ونقص الأدوية. أما وائل (زوج رزان) وناظم، فكانا
السند في العمل ونشطا منذ ما قبل الثورة ثم بعد انطلاقها سياسياً وحقوقياً
واجتماعيا.ً
الأمر الثاني، مكان الخطف
والمسؤولية عنه. فالخطف حصل في دوما، كبريات مدن الغوطة وأحد معاقل الحراك الثوري
منذ مارس 2011. والمسؤولون أمنياً وعسكرياً في دوما فصائل تقاتل النظام على جبهات
عدة، أكبرها وأكثرها انتشاراً وتجهيزاً "جيش الإسلام" بقيادة زهران علوش
(وهو أيضاً أكبر فصيل في الغوطة). ويصعب بالتالي عدم تحميل الجيش المذكور
المسؤولية المعنوية عن الخطف، خاصة أن المعطيات لم تشِر الى قيامه بأي تحقيق جدّي
بعد حدوث هذا الخطف، علماً أن رزان سبق وتعرّضت لتهديدات كان على علم بها، وأن
واجبه يقتضي حماية المقيمين في مناطق انتشاره، وبخاصة أولئك الذين يلعبون دوراً
هاماً في مواجهة النظام وفي دعم المجتمع المحليّ الذي يقول بالدفاع عنه.
الأمر الثالث، استمرار احتجاز
المخطوفين بعد أشهر خمسة تقريباً على اختطافهم، وتباطؤ المساعي للإفراج عنهم رغم
أن عمليات إفراج عن مخطوفين آخرين جرت إن في الغوطة أو في الشمال السوري. ويُسجّل
هنا فتور ردّات فعل الحكومات والهيئات الدينية الإقليمية والجماعات غير الحكومية
التي تموّل معظم القوى الإسلامية السورية المقاتلة، والتي يمكنها تكثيف الجهود
والضغط من أجل الإفراج عن المعتقلين أو دفع حلفائها في الغوطة للبحث الجدّي عنهم
وتحريرهم.
لكلّ هذا، يثير اختطاف سميرة
الخليل ورزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي عند أكثر متابعي الشأن السوري الحزن
والغضب، لما مثّله عملهم سياسياً وأخلاقياً ولما حقّقته جهودهم وسيَرهم منذ ما قبل
الثورة وخلالها ميدانياً وحقوقياً وإعلامياً، ولكون خطفهم جرى في منطقة آمنوها
واعتبروها ملاذهم بعيداً عن تهديدات النظام الأسدي اليومية لهم. وأيضاً لمسؤولية
قوى معارضة تُقاتل النظام في حادثة الخطف أو على الأقل في عدم التدخّل الحاسم
لإنهائها ومحاسبة القائمين بها.
ولكلّ هذا أيضاً، وجب رفع
الأصوات من جديد والضغط بكل الوسائل الممكنة على الجهات القادرة من أجل التدخّل لإطلاق
سراح سميرة ورزان ووائل وناظم ليعودوا الى أهلهم وصحبهم وعملهم، فتُطوى هذه الصفحة
البشعة التي استهدف فيها مسلّحون "معارضون" ظلماً وعدواناً مدنيّين معارضين
ائتمنوهم حياتهم وسلامتهم.
حرّية سميرة ورزان ووائل
وناظم وجميع المخطوفين هي امتحان سياسي لصدقيّة بعض القوى المعارضة المعنية وحلفائها
الخارجيين. وإطلاقهم هو أيضاً مسؤولية قانونية وأخلاقية، كي لا تتكرّس سلوكيّات
بعض الفصائل المسلّحة المعارِضة بوصفها صنوَ سلوكيّات النظام وأجهزته المخابراتية...
زياد ماجد