ماذا يعني أن
تشهد بعض أحياء بيروت إطلاق نار كثيف احتفاءً بتجديد بشار الأسد البيعة لنفسه بعد
أن قتل نظامه خلال ثلاث سنوات وثلاثة أشهر حوالي مئتي ألف مواطن سوري وجرح واعتقل
وهجّر حوالي عشرة ملايين آخرين؟
الإجابات
متعدّدة، والمشترك فيها يرتبط بالبعد الأخلاقي للموضوع وما يظهّره من انحطاط في
سلوك المحتفين ومن رياءٍ في ابتهاجهم وكأنه ناجم عن فوزٍ لمرشّحهم في انتخابات
رئاسية.
أما في
السياسة، فعدّت معظم الإجابات أن النيران المفتوحة دليل على استمرار نفوذ الأسد في
لبنان بعد تسع سنوات على انسحاب جيشه منه ورغم المقتلة المستمرّة داخل سوريا.
الفقرات
التالية ردّ على الإجابات السياسية المذكورة، واعتبار أن إطلاق النار إنّما هو
دليل حسّيّ على نهاية الحقبة الأسدية في لبنان منذ سنوات وليس العكس.
فأن يكون مطلقو
النار من حزبين بلا وزن شعبي أو من مخبرين سابقين ومن بقايا تنظيمات هامشية ومن
بعض الأفراد الموتورين، فالأمر تأكيد أن تركة النظام السوري لبنانياً اقتصرت على
جماعات محدودة الحجم لا قدرة عندها على غير العنف المتفرّق، وأن العنف هذا يستفيد
من غطاء سياسي يؤمّنه طرف لبناني واحد، حزب الله، لأسباب تخصّ الحزب ووليّة أمره طهران
وليس دمشق. ومن لا يميّز بهذا المعنى بين حزب الله وبين أحزاب – أجهزة صغيرة تابعة
لنظام الأسد يفوّت القدرة على قياس نفوذ الأسد لبنانياً. ذلك أن الحزب الشيعي يعدّ
نفسه منذ أيار 2005 وارث الدور السوري لجهة ضبط الحياة السياسية والهيمنة عليها
بغية الاستمرار في تسليح نفسه وإقامة كيانه الأمني والعسكري والايديولوجي
والخدماتي. وهو صار يرى في دوره الإقليمي منذ العام 2012 حماية للنظام الأسدي داخل
سوريا نفسها بطلب إيراني. أي أنه لا يكتفي بنديّة في التحالف مع نظام الأسد
والتحوّل الى بديله لبنانياً، بل يتصرّف بما يشبه الرعاية له سورياً على أساس الحسابات
الإيرانية، متحوّلاً من شقيق أصغر لـ"سوريا الأسد" الى توأم ثم الى شقيق
أكبر، يرى في إطلاق النار الابتهاجي عملاً هامشياً، يُترك لسقطِ القوم، في حين
يُدير بوكالته عن طهران المعركة الكبرى لنُصرة الأسد في دمشق وإنقاذه.
والأسد بالتالي
لا يملك قاعدة شعبية لبنانية مستقلة يديرها بالمباشر. يملك حليفاً تُتيحه طهران
(وصار وكيل وصاية عليه) لأسباب تتخطّاه، ويملك مطلقي نار في الهواء، وفي غير
الهواء إن سمح حزب الله لهم بذلك. وأكثرية الشيعة ونصف المسيحيين الذين يؤيّدونه،
إنما يفعلون ذلك لحسابات (وأوهام) خاصة بهم وبقياداتهم السياسية أو بطهران وليس
به. فهو صار أداة ولم يعد المقرّر. وسوريا صارت موقعةً لصراعات لم يعد نظامها (الذي
لطالما اعتاش واقتتات من صراعات جواره) إلا لاعباً فيها لا يقوى على الاستمرار دون
الإيرانيين وحلفائهم اللبنانيين والعراقيين...
بالعودة الى
إطلاق النار البيروتي المبتهج، يمكن أن نضيف الى مظاهر الضعف التي يصدر عنها
أمرين. الأوّل مخزون الكراهية فيه، وهي كراهية للسوريين سببها خوف كامن ليس من
سقوط الأسد في انتخابات يواجه نفسه فيها، بل من سقوطه على أيدي السوريّين أنفسهم.
وهي كراهية للأوضاع اللبنانية العامة أيضاً، التي لم يعد فيها للأسد أن يقرّر في ما
كان يحسمه ضبّاط مخابراته خلال ساعات: لا في ما خصّ رئاسة الجمهورية وقبلها
الحكومة، ولا في ما يخصّ قانون الانتخابات النيابية الذي كان يُفترض أن يفضي
مجلساً جديداً.
الأمر الثاني
هو الحاجة الى تهديد اللاجئين السوريين والزعم أمامهم أن قوة نظامهم ما زالت
قائمة، وأنّه ما زال يملك نفوذاً ورصاصاً خارج حدود سوريا وليس داخلها فحسب، وأن
لا تغيير فعليّاً حصل رغم كل الدماء التي سالت ورغم الخراب المعمّم. والحاجة الى
التهديد هذه، تماماً كالحاجة داخل سوريا الى الإخضاع بالطيران والبراميل المتفجّرة
والسكاكين والتجويع وتعذيب السجون تشير الى سقوط السطوة الرمزية للنظام وهي التي
كانت مصدر قوّته الأبرز لعقود خلت. فمجرّد الخوف من عنفه كان يمنع الناس من
التحرّك، ومجرّد التفكير بما يمكن أن يحصل كان يردع الفعل السياسي. أما اليوم،
فالعنف الماديّ المباشر، وبفائض لم يشهد التاريخ العالمي المعاصر شبيهاً له، صار
وحده ما يحدّ الفعل في الزمان والمكان، وبمجرّد توقّفه، يعود الفعل هذا ويُستأنف.
وفي ذلك ما يؤكّد أن وقود النظام الوحيد منذ العام 2011 هو القنص والتدمير
والمجازر. وهذا بالطبع يجعله أكثر خوفاً وأكثر ارتهاناً لمن يمدّه بالقدرة على
القتل والذبح والقصف بالطائرات، أي إيران ثم روسيا.
خلاصة الأمر
أن إطلاق النار في لبنان نحو السماء وفي سوريا من السماء نحو الناس على الأرض صار
ملاذ النظام السوري وعملائه الأخير. وهو إذ يعمّم الضرر والمآسي ويُديم الحال على
ما هي عليه لأشهر ربّما أو لسنوات، يزيد من ضعف النظام ومن انكشافه على مزوّديه
بالنار التي يطلقها. والمزوّدون هؤلاء ما زالوا على حاجتهم له اليوم، لكنّ إدارتهم
المباشرة لأمره ووصايتهم عليه تظهر أن ثقتهم بقدرته وحده على الاستمرار انتهت،
وأنّهم إذ يفضّلون راهناً بقاءه المديد بموازاة ضعفه المديد، قد يرون في اعتبارات أخرى
على حسابه يوماً ما مخرجاً لهم، أو طمأنة في أحسن الأحوال.
في انتظار
ذلك، سيظل الصغار من مطلقي النار "يبتهجون" ويلهون بأسلحتهم وضوضائها، مردّدين
لمن يقرّر فعلياً، إن الواجب يُملي اعتبارهم معه في معسكر "الفائزين".
زياد ماجد