حجبت وسائل التواصل
الاجتماعي مؤخّراً صوَر وأفلام "داعش" الخاصة بإعدام الصحافي الأميركي
جيمس فولي. وحسناً فعلت في حجبها هذا، احتراماً لِفولي ولعائلته وأصدقائه من
ناحية، ومنعاً لـ"داعش" من استخدام مشاهد القتل البربري الذي مارسته
تسويقاً لعنفها وجذباً للاهتمام الإعلامي وبثّاً للرّعب والذهول من أعمالها (وهو
ما تبحث عنه منذ صعودها لِبناء هالتها) من ناحية ثانية.
ما يعنينا في هذه العُجالة
من شأن الحجب مرتبط ٌبمسألتين. الأولى، التعامل مع مشهديّة القتل ومع صورة الجثة
الآدمية المذبوحة. والثانية، مقدار التعاطف مع صاحب الجثة وذويه واعتبارهم في
ذاتهم قضيةً إنسانية تستأهل الدعم والعدالة. فإذا اعتبرنا صواباً حمايةَ الجثّة من
العرض ومن استباحة العيون، وإذا أخذنا باستئهال الضحية العدالةَ، أمكنَنا أن نُسقط
الأمرين (نظريّاً على الأقل) على حالة عامة تتكوّن من عشرات آلاف الحالات الخاصة المتماثلة
مصيراً، في نفس المكان والزمان حيث وقعت جريمة ذبح جيمس فولي.
الموت السوري
المُباح
منذ تصاعد العنف الذي واجه
به النظامُ الأسديّ السوريّين المنتفضين عليه والمناطق التي عدّها حاضنةً شعبية
لهم، تسارع تدفّق الصوَر والأفلام المحمّلة بأهوال القتل الفردي والجماعي: من
مشاهد النحر بالسكاكين، الى مناظر الجثث المنكّل بها، الى معارض الأشلاء والأعضاء
المقطّعة بالقصف المدفعي أو الجوّي، الى الجثامين المجهّزة لأكفانها بعد أن نال
التجويع والتعذيب من أصحابها، وصولاً الى القتلى اختناقاً بالغازات الكيماوية. وقد
اتّسع حضور هذه الصوَر تدريجياً في اليوميات السورية مع اتّساع رقعة الموت الضارب
للناس.
وشكّلت المواد المصوّرة في
عامها الأول سلاحاً في المعركة الإعلامية مع النظام، تعدّدت أهدافه. فمن جهة، كانت
الصور كسراً للطوق الذي حاول النظام إحكامه لإبقاء الثورة والمقتلة محجوبتين عن
أعين العالم. ومن جهة أُخرى، كانت توثيقاً لمجريات الانتفاضات الشعبية في أرجاء
البلاد. ومن جهة ثالثة، كانت بحثاً عن توسيع رقعة الرفض داخل سوريا لاستبداد
النظام وبطشه من خلال تصوير مذابحه، ومحاولةً لاستنهاض تضامن خارجي مع المتظاهرين
ثم المقاتلين وهو يواجهون آلة الموت "النظامية". بهذا المعنى، اعتُمدت
الصوَر قرائن على شجاعة الناس مقابل وحشيّة أجهزة الأمن والعسكر، وشهادةً على ثورة
شعبية وكفاح سلمي ثم مسلّح مقابل قتلٍ وقصفٍ ومجازر وأكاذيب متواصلة.
لكن أهداف التصوير في ما
يتخطّى التوثيق (الضروري) للمجريات والتطوّرات والفظائع لم تتحقّق. ولعلّ ما طرأ
بعد ذلك، ابتداءً من العام الثاني للثورة وما حمله من ارتفاع مخيف في أرقام
الضحايا ثم تحوّل الطيران والبراميل المتفجّرة الى سلاح النظام الأبرز في قصف
المناطق التي خرجت عن احتلاله، دفع التركيز في الصور والأفلام على القتلى الى
تزايد. فصارت مواقع وصفحات تواصل إجتماعي معارض جثث تُرك أصحابها نهباً للعيون
المتلصّصة، مبالية ومتعاطفةً كانت أم غير ذلك.
السؤال الذي يطرح نفسه بعد
كل هذا هو سؤال مركّب مفاده: لماذا لم تُثِر ملايين الصور والأفلام (ومن ضمنها
مئات آلاف الصور والأشرطة التي تُظهر القتلى المدنيّين المنكّل بجثامينهم) تعاطفاً
أو تضامناً واسعَين مع القضية السورية حول العالم؟ ولماذا لم تُطرح مسائل احترام
الموتى وحُرمة أجسادهم المقطّعة أو حظر الترويج للإرهاب الأسدي كما "الداعشي"
ضدّهم (وثمة وثائق فيها ذبحٌ وطعن وإعدامات لصحافيين وأطبّاء ومدنيّين آخرين) بنفس
الطريقة التي طُرحت فيها مع الصحافي الأميركي في المواقع الإعلامية ووسائل التواصل
جميعها؟ واستطراداً، لماذا استمرّ عرض الأشلاء والقتلى على صفحات الكثيرين من
الناشطين والناشطات السوريين وعلى مواقع إخبارية، رغم انتفاء كل ضرورة أو
"فائدة" سياسية للأمر؟
التضامن
الإنساني الضائع
بعيداً عن بُلهاء التشكيك أو
عن المُسخّرين رياءَهم دعماً للأسد ممّن نفوا تكراراً صحّة الصوَر أو صادروا ملكيّة
الضحايا فيها واتّهموا خصومهم بالقتل، طرح بعض "خبراء" الإعلام الغربيين
مجموعة فرضيّات حول أسباب محدودية تأثير الصوَر الوافدة من سوريا على قسم كبير من مشاهديها.
فاعتبروا أن تعذّر عمل الصحافيين المُحترفين في سوريا واستبدال صورهم بصُوَر هواة
أثّرت سلباً لجهة الجماليّات والمصداقية، وأضعفت الأثر المحتمل أو المفترَض لدى
المتلقّين للخبر المصوّر. وقالوا أيضاً إن عامل الوقت و"تعقّد" الأوضاع
دفع المشاهدين ومعهم بعض إدارات التحرير في الإعلام الغربي الى طرح السؤال نفسه:
"من يقتل من؟" وختموا بأنّ تكرار أخبار الموت وصوَر الجثامين أصابت
المتابعين بالسأم وتسبّبت بتبلّد عاطفي وتطبيع مع فكرة أن الأخبار السيئة تأتي
دائماً "من تلك المنطقة" وأن لا جديد فيها.
على أنّ في مزاعم الخبراء هؤلاء
أخطاء أو قصر إدراك بالواقع السوري، ولَو أنّ فيها أيضاً بعض الصواب. فإن صحَّ أن
أخبار القتل المتواصلة قد تُحوّل الموت وأهله الى خبر عادي في وسائل الإعلام، فإنّ
الأصحّ أن في الأمر إرادويّة إعلامية أيضاً وثقافوية في النظرة الى سوريا ومنطقتها
بوصف العنف بداهةً فيها ولا جديد حوله. والتساؤل "عمّن يقتل مَن" يعبّر
إن نحّينا سوء النية جانباً، عن استقالة من مسؤولية القراءة والمتابعة والاستقصاء
التي توضح جيّداً هويّة القاتل، وعن تبرير للتقاعس عن اتّخاذ الموقف الأخلاقي تجاه
كفاح شعبي وتجاه استبداد وهمجية، على اعتبار "الجميع سواسية في القتل
وتبعاته".
الأهمّ ربما، بمعزل عن الصوَر
وجماليّاتها (المتوافرة في الكثير من الأحيان) وعن المشاهد الفظّة التي يمكن الاكتفاء
بلمحها أو التمعّن فيها، أن التعاطف والتضامن الإنسانيّين اليوم في العالم، على
استنسابيّاتهما، يبدوان أقلّ شأناً مع ضحايا "الحروب الأهلية".
فالمتابعون يدّعون غالباً صعوبةَ تمييز بين الفرقاء، ويرون تشابهاً بين القاتل
والقتيل، ويُؤْثِرون رفض التدخّل في "شؤون داخلية" وأخذ مواقف تجاهها. وهذا
يُشير الى أن حرب المصطلحات في سوريا وحولها لم تكن ترفاً، وأن الاستسلام لمصطلح
"الحرب الأهلية" كان خطأ فادحاً، خاصة أن كلّ ثورات العالم حملت وتحمل
الكثير من خصائص الحروب الأهلية ولا شيء سورياً مختلفاً في ذلك. لكن السويّة في
هكذا حالات لا يمكن إعمالها بين نظام ذي سلطة مطلقة وآلة قمع شديدة التجهيز وجمهرة
من الناس المحكومين والمتضرّرين من عسفه، الثائرين عليه.
في أيّ حال، بدا من خلال
علاقة الإعلام ومشاهديه بالصوَر السورية أن "داعش" إذ تستهدف غربيّين
بأسلوب قتل بدائي كالذبح، إنما تفرض الخبر في نشرات الأخبار كافة، وتتسبّب
بالنقاشات حول عرض الموت وحول الضحية وذويها وحقوقهم ومشاعرهم، بما لم يحظَ به
السوريّون مرّة، لا إن قُتلوا بنفس الأسلوب على يد النظام أو "داعش"
إياها، ولا إن ظلّ موتهم مجرّداً أو محجوباً خلف ركام بيوتهم التي حطّمها الطيران.
وهذا يطرح سؤال المساواة
بين البشر في حياتهم ومماتهم. وهو سؤال قديم تجدّده أحوال سوريا وأهوالها اليوم.
صوَر الحياة
يُعيدنا كلّ ما ورد من جديد
الى قضية الصورة ومضمونها. فمع أهميّة التصدّي لكل إقصاء للسوريين وقضيّتهم
التحرّرية عن وسائل الإعلام العالمية، ثمة أهميّة موازية للابتعاد عن وهم استثارة
التعاطف عبر فتح أبواب مشرحةٍ ليحدّق فيها البعضُ وليُشيحَ البعضُ الآخر نظره
بعيداً عمّا فيها من فداحة.
ومسؤولية الناشطين السوريين
في الأمر كبيرة. فاحترامهم للجثامين بوصفها ملكاً خاصاً بأصحابها في لحظة تحوّلهم
الى ضحايا عاجزين عن إبداء الرأي في مآلاتهم أهمّ من استعراض الأوصال البشرية
المقطّعة للفت الانتباه، بلا طائل.
ويمكن القول ختاماً إن ما قد
"يلفت الانتباه"، وما يستحقّه الضحايا، هو ربّما التذكير بوجوههم قبل أن
تطفئ أنوارَها أسلحةُ الموت الأسدي و"الداعشي"، والتذكير بأن حياةً كانت
لهم وحاجيّات وأغراضاً أو ألعاباً وابتسامات. والتذكير بأن أشخاصاً سيفتقدونهم
وسيكملون الحياة بحزن من دونهم.
وما قد يلفت الانتباه أيضاً
هو صوَر المقاومة المدنية لجرائم النظام، صوَر المسعفين والأطبّاء الذين يُنقذون
الأطفال من تحت أنقاض المنازل التي دمّرتها براميل الأسد، وصوَر النساء اللواتي
يعملنَ ويتحدّين القتل والقهر، وصوَر المواطنين الصامدين في مدنهم وبلداتهم، أو
الناشطين سلماً وحرباً في مواجهة النظام و"داعش". ففي هكذا صُور تتواصل سيرة
السوريّين، ويبدو الخروج من الحُطام انبعاثاً لهم من الموت ومن الصمت... أما
الجثامين، فتصويرها ضروري، لكن ينبغي قصره على تخزينٍ في ملفّات تُوَثَّق فيها كلُّ
معلومة وتُحفَظ جيداً كذاكرةٍ لما حدث ذات يوم في سوريا، وكمادة تنتظر محاكمة
القتلةِ وشهودَ الزور، من أجل العدالة ومن أجل المستقبل...
زياد ماجد
مقالة نُشرت في موقع "بدايات" في شهر أيلول/سبتمبر 2014