ثمّة في حياة هاني فحص
المكثّفة عناصر سيرة شيعية جنوبية لبنانية امتدّت عقوداً، قبل أن تتضافر ضدّها
مجموعة عوامل داخلية وإقليمية فتغيّرَ من مسالكها المتعرّجة وتخطَّ لها مسلكاً
واحداً جديداً.
فهاني فحص، ككثرةٍ من
أبناء الجنوب وبناته، التحق بالكفاح الفلسطيني في أواخر الستينات وأطلّ منه على
الواقع اللبناني، فقارع المدافعين عن النظام السياسي القائم وعن نُخَبه في توارثها
للمواقع والمنافع وفي سدّها المنافذ أمام الإصلاحات والتغييرات واحتمالات التحوّل
السياسي المرافق للتحوّلات الاجتماعية في البلاد. وككثرة من أبناء الجنوب أيضاً،
مال فحص وقتها الى اليسار، ووفّق بين شيعيّته وما كان للاجتهاد وللقلق والعصامية
من سماتٍ لجوانب فيها، وبين علمانية أراد ذاك اليسار إلباسها للدولة والمجتمع.
هكذا كان جنوبياً شيعياً،
وكان يسارياً فلسطينياً، أُفقه العالم وهويّته مركّبة تركيب ثقافته ولغته. وكان
فوق ذلك شيخاً سيّداً، تُتيح له عمامته الحفاظ على الروابط الوثقى داخل بيئته
الدينية، بمكوّناتها الشبيهة به أو المغايرة.
ومع اندلاع الثورة
الإيرانية وصعود الخمينية، مال فحص إليها كمَيل أكثر الشيعة ومعهم كثرة من
اليساريّين والفلسطينيين يومها، ووجد فيها تعبيراً عن أمميّة ثورية جديدة. لكن
النزعة التسلّطية والمركزية الشديدة التي سرعان ما طغت في طهران (وقمّ)، والسعي
الإيراني الحثيث لخلق أذرع عسكرية تابعة في لبنان والمنطقة، دفعت السيّد الى
الانكفاء عنها تدريجياً. جاء ذلك في مرحلة كان الفلسطينيون قد خرجوا خلالها من
بيروت، وكان اليسار الى أفول، وأنظمة الاستبداد في العالم العربي الى تماسك، والهيمنة
المخابراتية السورية على لبنان الى تصاعد، ومعها جولات الحرب الأهلية في فصولها
المأساوية الأخيرة.
اختار هاني فحص عندها
البحث عن أولوية جديدة. عن موقف لا يقطع مع ماضيه ولا يُضيّق أفقه، وإنما يُعيد
تأسيس تجربته على اعتبار الهوية الوطنية منطلقها والسلم الأهلي والمواطنة شرطَيها
الشارطين. فكانت رحلته الجديدة التي ستجعله مع الوقت أقلّوياً في بيئته الشيعية
حيث كان حزب الله قد نجح في التحوّل قوّةً أولى، مدجّجة بالسلاح الإيراني وبوسائل
التعبئة الخدماتية والتعليمية والإيديولوجية...
ومع انطلاق الثورات
العربية، انحاز إليها فحص بلا تردّد، من البحرين الى سوريا. ولعلّ رسالته الموقّعة
مع رفيقه السيّد محمد حسن الأمين صيف العام 2012 دعماً لكفاح الشعب السوري عبّرت
أبلغ تعبير عن دعمه غير المشروط للناس الثائرين لانتزاع حرّيتهم في وجه آلة بطش
بربرية. وهذا بالطبع ما لم يرُق لمن كانوا قد بدأوا للتوّ مشاركة النظام الأسدي
جرائمه ضد السوريّين...
ظلّ هاني فحص إذن يعبّر
في فائض حيويّته عن بعض خصائص انطلاقته في الستينات والسبعينات. وظلّ في انفتاحه
وقدرته على التواصل مع المختلفين بعيداً عن كلّ تعليب وتأطير. ودماثته وابتسامته
الدائمتان لم تتناقضا مع صلابة مواقفه، ولا تناقضت سخريته مع جدّيته.
الرحمة والسلام له، والبقاء
وطول العمر لما جهد وعمل لأجله.
زياد ماجد