ليس أسوأ من تقليل البعض
من خطر "داعش" ومن انحطاط ممارساتها وإجرامها الظلامي سوى قول البعض
الآخر إن "الداعشية موجودة في كل واحد منّا" أو إنها نتاج "طبيعي لثقافة
مجتمعاتنا". ذلك أن إخراج "داعش" من السياق الذي وُلدت فيه، في
الزمان والمكان وأحوالهما، أو جعلها كائناً محتملة ولادتُه في أي لحظة وفي أي موضِع
على امتداد ما يُسمّى "مجتمعاتنا" (هكذا ومن دون تردّد أو تمييز أو اعتبار
أن ثمة اختلافات بين "مجتمعاتنا" تلك وداخل كل واحد منها قد يفوق
الانسجام والتماثل فيها وفي ما بينها)، أو النظر الى "داعش" كمُنتج حتمي
"لأنّنا هكذا" (ومرّة جديدة على اعتبار الـ"نحن" جماعة يتشابه
أفرادها من إندونيسيا للمغرب ولا يتغيّرون على مدى العصور)، إنما هي سذاجة سياسية
وثقافية إضافة الى كونها تهافتاً علمياً.
والأنكى أن هذه الأحكام
التبسيطية والإطلاقية تُشبه ما يذهب إليه طرفان في شأن مجتمعات "منطقتنا".
الطرف الأول هو "داعش" نفسها التي تحكم على المجتمعات حيث تعيش أكثريات
مسلمة (سنّية) وِفق نفس الأحكام، كما أنها لا ترى للزمن فعلاً أو دوراً، محاولةً
في العام 2014 اعتماد القرن السابع نموذجاً راهناً. والطرف الثاني هو عُتاة
العنصرية في الغرب، من صغار كتّابٍ وسياسيين وأكاديميين، ممّن يُحيلون أيّ أمر
يحدث في أي وقت وأي ظرف وفي أي مكان يقطنه مسلمون الى نفس التنميطات والأحكام
والمشروطيّات.
هكذا، تجد من يعتبر
حادثة صِدام بين شبّان في حيّ شعبي دليلاً على "أصالة الداعشية عندنا"،
أو من يرى في همجية عددٍ من المشجّعين في مباراة كرة قدم تأكيداً على "واقعية
داعشيتنا"، فيعدّون الأمرَين مشابِهين لمعارك سياسية ومذابح تُرتكب في العراق
وسوريا. علماً أن العنف في بعض المباريات الأوروبية يمكن أن يفوق عنف بعض الجمهور
"العربي" في مباريات فرقه، وعلماً أيضاً أن لحظات الاحتقان الاجتماعي
والسياسي يمكن أن تولّد في أي مكان في العالم ينتفي فيه القانون وحضور الدولة
ظواهرَ عنفٍ أو رِدّة فظيعة.
أما "الداعشية"
فشأن آخر له آباؤه وظروف تقدّمه وانحساره. وهو سرطان فعلي ينمو حالياً في بعض الشرائح
الاجتماعية في أكثر من بلد عربي لأسباب صريحة ولأمراض متفاقمة ليس الإسلام نفسه في
فهم الكثير من المسلمين (وغير المسلمين) له بمنأى عنها. وهو مرتبط بلحظة تاريخية
وبقدرة على الاستفادة من مقدّرات مالية وإعلامية وعسكرية وتكنولوجية تُتيحها
أزمنتنا الراهنة التي يصعب على الـ"داعشية" أصلاً أن تعيش من دونها. وكل
تحويل لـ"داعش" الى مجرّد امتداد بديهي لظواهر عنف متفرّقة ومتناثرة يُعفي
الأنظمة الطاغية في المنطقة، كما بعض التيارات الدينية والأحداث الجسام وتطوّراتها
في العراق وسوريا تحديداً، من مسؤولياتها في توفير الأوضاع التي تلدها وتعزّزها.
بهذا المعنى، تؤدّي
المبالغة التي تعتبر أيّ ظاهرة عنف مقدّمةً أو سبباً لظهور "داعش" الى جعل
الداعشية حالة عادية، في حين أنها نقيض ذلك. وادّعاء "النقد الذاتي" أو اكتشاف
مكامن عنف في "المجتمعات" لا يقدّم ولا يؤخّر في تفسير ظاهرة خطيرة ومركّبة
كالظاهرة الداعشية التي تلتهم اليوم ألوفاً من البشر، وسيرافق القضاء عليها يوماً
ما إلتهام الألوف الآخرين...
زياد ماجد