تتعرّض بلدة عرسال في
البقاع الشمالي منذ ثلاث سنوات لضغوط وتحدّيات كبرى، وتدفع أثماناً باهظة في نقطة
التقاطع الأبرز بين لبنان وسوريا. وللأمر أسبابٌ عدّة.
السبب الأول، الانهيار
السياسي المؤسّساتي في لبنان، حيث تصريف الأعمال الحكومية يبدو سيّد الموقف منذ
العام 2011، وحيث المجلس النيابي كيان شكليّ يمدّد لنفسه ويعجز عن انتخاب رئيس
جمهورية، وحيث الأجهزة الأمنية نهبٌ للتجاذبات السياسية بين أطراف يبدو بعضها
مراهناً على "مناعة مجتمع" غير مدركٍ تآكلها، وأطراف أُخرى تظنّ فائض
القوّة كافياً لردع الأهوال التي غالباً ما تستجلبُها هي نفسها الى الحلبة
اللبنانية.
السبب الثاني، تفاقم
أزمة اللاجئين السوريّين المُبعدين من ديارهم نتيجة حرب النظام الأسدي عليهم،
وتمنّع الدولة اللبنانية والجهات الدولية عن بلورة سياسة واضحة ورصد الموازنات
الضرورية لها لتنظيم النزوح وإدارة أحوال اللاجئين بما يحفظ بعض كراماتهم ويخفّف
الضغط الاقتصادي والاجتماعي عن البلدات والمناطق الحاضنة لهم، وعرسال في طليعتها، المُعانِية
أصلاً من كثرة المشاكل والصعوبات المعيشية.
السبب الثالث، إنخراط
حزب الله في المعارك في منطقة القلمون دعماً للنظام الأسدي، واستدراجه جماعات
سورية مسلّحة يحاول بعضها استخدام الأراضي اللبنانية المحاذية لعرسال خطّ إمداد
له، بما يجني على اللاجئين السوريّين أوّلاً وعلى مستضيفيهم ثانياً ولا يغيّر
كثيراً في شروط المعركة. وللقائلين إن تحميل حزب الله المسؤولية افتراء سياسي أن
يوضحوا أسباب هدوء الأمور نسبياً حتى أواخر العام 2012، لا بل حتى منتصف العام
2013، أي حتى صار انخراط الحزب اللبناني في القتال داخل الأراضي السورية مادة
تفاخر علنيّ. ومقولة "الاستباق" مردودةٌ، لأنها تحوّلت "استجلاباً
للشرّ" وليس منعاً له، ولأنها حتى لَو صدقت، قد فشلت فشلاً ذريعاً. أما
اعتبار أن "ما كان سيجري أعظم لولا قتال الحزب داخل سوريا"، فمصداقيته
لا تختلف في شيء عن مصداقيّة التدرّج في الدعاية الحزبية من أن "لا شيء في
حمص" الى "الذهاب للدفاع عن اللبنانيين داخل سوريا" الى التعبئة لـ"منع
أن تُسبى زينب" الى القول بـ"حماية خطّ إمداد المقاومة" الى إعلان
"التصدّي للمؤامرات" وصولاً الى "محاربة التكفيريّين"...
السبب الرابع، تمكّن
المقاتلين الجهادييّن، من "النصرة" و"داعش"، من تدعيم حضورهم
في منطقة العمليّات العسكرية في القلمون إبتداءً من مطلع هذا العام. ذلك أن تفكّك
الجيش الحرّ نتيجة تراجع الدعم له، أفسح المجال أمام جماعات مثل
"النصرة" لاستقطاب عناصر تبحث عن سُبل قتال النظام. وأفسح لها المجال
أيضاً لاحتلال مناطق ثم الانكفاء عنها على نحوٍ لا يبدو على الدوام مرتبطاً بخطط
قتالية بقدر ما هو مرتبط باستراتيجية ظهور إعلامي يُترجم مزيداً من الاستقطاب
تحضيراً لمراحل جديدة من الصراع. أما تنظيم "داعش"، ذو الحضور الضئيل
(حتى الآن) في هذه المنطقة، فهدفه القول إن حدوداً جديدة بين دول المشرق صارت في
مرمى نيرانه، وإنه مستمرّ في التمدّد رغم الجبهات العديدة التي يقاتل عليها في
العراق وسوريا. ولعلّه يفيد التذكير هنا أن أكثر طرف قاتله "داعش" منذ
ظهوره في الرقة في أيار 2013 كان كتائب الجيش الحرّ وبعض الكتائب الإسلامية
السورية المقاتلة للنظام. ولا شكّ أن هذا التنظيم السرطاني صار اليوم مدعاة قلق في
أكثر من بلدٍ من بلدان المنطقة، لكونه التعبير الأكثر بشاعة عن "القيح"
الذي تُخرجه مجتمعات أعمل فيها الاستبداد والتعفّن قمعاً وتنكيلاً (إضافة الى
أسباب أُخرى، سبق وتناولناها في مقالِ "آباء داعش" في هذه الزاوية).
وهذا لا يناقض في شيء الحكي عن مسؤولية حزب الله في استدراج القتال الى داخل
لبنان، ذلك أن المعارك التي خاضها في سوريا والشعارات التي رفعها فاقمت بدورها من
التردّي الذي يتيح لـ"داعش" (و"النصرة") الدعاية والتمدّد فوق
واقع مذهبي متوتّر في المقلبَين.
أما السبب الخامس، فهو هشاشة
ضبط الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية (الشرعية) للحدود مع سوريا نتيجة عاملَين.
الأوّل، الارتباك في علاقتها بالأجهزة التابعة للنظام السوري الجاثمة من الجهة
المقابلة، العاجزة عن - أو الراغبة بعدم - الضبط. ولنا في مسلسلات كثيرة خاض في
بعضها القضاء اللبناني أمثلةً (ليست قضية ميشال سماحة سوى واحدتها)، ولنا كذلك في
التردّد تجاه التعامل مع مصادر النيران السورية حين تستهدف عرسال نفسها وأطرافها
من الجوّ والبرّ مثالاً إضافياً. وطبعاً لنا في انعدام القدرة على منع التحرّكات
العسكرية من لبنان الى سوريا (لآلاف مقاتلي حزب الله) ما قد يُفضي الى صعوبة منعها
في الاتجاه المعاكس.
كلّ هذا، يوصِل اليوم
الى ما تعيشه عرسال وأهلها واللاجئون فيها من مأساة. ويوصل أيضاً الى تحوّل الجيش
اللبناني وقوى الأمن ضحيةً لوضع فُرض عليها، فيدفع المدنيّون والعسكريوّن أثماناً بدمهم
وممتلكاتهم، لا يبدو أنّ "المسؤولين" السياسيين جاهزون للتصدّي لها
وإدارتها بما يطوي صفحتها، أو على الأقلّ يحدّ من احتمالات تكرارها وتطوّرها...
زياد ماجد