منذ نهاية القرن الماضي، يبدو جهد بعض الأطراف اللبنانية (ومن خلفها النظام
السوري) منصبّاً على تصوير السنّة في لبنان جماعةً ذات قابلية للتطرّف الديني على
نحو يناقض كامل تاريخها السياسي منذ الاستقلال، حيث لم تشهد نخبها مرّة صعوداً
لتيار إسلامويّ أو ظهوراً لخطاب إيديولوجي متشدّد. وإذا ما استثنينا "حركة
التوحيد الإسلامي" وتجربتها الوجيزة (والكارثية) في طرابلس أواسط الثمانينات،
لأمكن القول إن الحرب الأهلية ذاتها لم تعرف بروزاً لميليشيات سنية تُعلي هويّة دينية
أو تتخطّى الطائفية بأشكال اصطفافها المعهودة لبنانياً باتجاه برنامج إسلامي سياسي
يهدف الى إحداث تغيير في بنية النظام أو فلسفته.
ويمكن لنا أن نستعيد شريطاً من الأخبار والأحداث بدءاً من أواخر التسعينات،
لتبيان الجهد المخابراتي والإعلامي والسياسي التخويفي من السنّة بوصفهم "امتداداً
للحالات الإسلامية العربية وحاضنة محتملة لإرهابها".
- في نهاية العام 1999 وبداية العام 2000 شهدت منطقة الضنية في الشمال
أحداثاً نُسبت الى مجموعة كانت تُعدّ لإعلان إمارة، وانتهت بمعارك وبسقوط ضحايا واعتقالات،
وبأخبار عن تطرّف يطغى على مناطق سنّية في شمال البلاد.
- في العام 2001، نظّمت جماعة الأحباش (الحليفة العلنية للنظام السوري)
مظاهرة بالسواطير في بيروت، مهدّدة المعارضة المسيحية الصاعدة يومها (لقاء قرنة
شهوان)، على نحو أريد له أن يوحي بأن من يلجم سواعد الجماعة عن استخدام سواطيرها
هم أصحاب القرار في الأجهزة المخابراتية السورية واللبنانية الطاغية.
- في الفترة الممتدة بين العامين 2003 و2005 جرى التركيز على تحوّل مخيم
عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة صيدا جنوب لبنان الى معقل للقوى
الإسلامية المتطرّفة. وجرى تحميل بعض قواه مسؤولية اغتيالات وصدامات وتفجيرات حصلت
في محيطه. وقد تُوّج التحريض والتخويف، بمقال نشره ضابط المخابرات السوري بهجت
سليمان في جريدة السفير البيروتية يدّعي فيه أن انسحاب قوات نظامه من لبنان سيؤدّي
الى انفجار الأوضاع ودخول المتطرّفين الى الساحة اللبنانية حيث لهم قواعد في
المخيمات وفي بعض المناطق (السنّية).
- في العام 2005، نُسب اغتيال رفيق الحريري الى "أبو عدس" والى
مجموعة أصولية تملك انتحاريين ويمكن أن تنفّذ أعمالاً أمنية ضخمة، مثل تلك التي
استهدفت رئيس الحكومة الأسبق!
- في العام 2007، اندلعت معارك عنيفة في مخيم البارد قرب طرابلس بين
"فتح الإسلام" والجيش، وقيل إن الجماعة المذكورة كانت بصدد إعلان إمارة
وإن صفوفها تضمّ مقاتلين من جنسيات مختلفة. علماً أن قائد الجماعة شاكر العبسي (الذي
"تمكّن من الفرار") كان مسجوناً في سوريا، وأطلقه النظام عشية دخوله
ومقاتلين آخرين الى لبنان.
في غضون ذلك، استمرّ التخويف من عين الحلوة وغيره من المخيمات الفلسطينية،
كما جرى الترويج لعلاقات بين تيار المستقبل الحريري ومجموعات متطرّفة، وأتى 7 أيار
2008 واجتياح حزب الله لبيروت وإسقاطه الحكومة ضمن ذرائع حول منع
"الفتنة" والمؤامرة، وتحوّل بالطبع الى عنصر استفزاز مذهبي والى سابقة
لبنانية تسقط فيها حكومة نتيجة عمل عسكري تقوم به قوّة مذهبية.
وتلت الأمر أحداثٌ كثيرة تزايدت مع بداية الثورة السورية ثم انخراط حزب
الله العسكري نُصرة لنظام الأسد ضدّها. فتقدّمت ظاهرة الشيخ أحمد الأسير لفترة قبل
أن تشهد صيدا معارك عام 2013 أنهى فيها الجيش الظاهرة المذكورة. ثم تكرّر توصيف
طرابلس وعرسال كقاعدتين للتطرّف الإسلامي السنّي على وقع اشتباكات في عاصمة الشمال
وتزايد أعداد النازحين في البلدة البقاعية. وبالطبع، جاءت موجة التفجيرات
الإجرامية التي استهدفت أواخر العام الماضي وأوائل العالم الحالي أحياءً شيعية
لتزيد من التحذير من الجماعات الإرهابية (السنّية) المنتشرة في لبنان. كلّ ذلك في
محاولات للتغطية على قتال حزب الله في سوريا وتبريراً له بوصفه استباقياً وحامياً
للشيعة والمسيحيين من خطر "التكفيريّين".
بهذا، أفادت حملات الاتهام وسلسلة الأحداث جميع القائلين بخوف الأقليات وضرورة
تحالفها، وأفادت كذلك كل الزاعمين بتطرّف سنّي صار له منذ سنتين عنوان يُحيل الى
"جبهة النصرة" فتنظيم "داعش". وليس من الصعب معرفة من استفاد
ومن تضرّر من هكذا وضع، ولا التأكّد اليوم من أن حملات مستمرّة منذ 15 عاماً
بالترافق مع ممارسات تعدّ واغتيال وتهميش واستفزاز، ومع تفاقم توتّرات مذهبية من
العراق الى سوريا، لا بدّ أن تُفضي فعلاً الى صعود بعض الجماعات في لبنان التي
تبحث عن التمثّل بالآخر المذهبي (حزب الله) للردّ عليه والثأر منه. ومن الممكن
طبعاً أن تحصل هكذا جماعات على دعم خارجي وعلى بعض الاحتضان الداخلي، وفي ذلك ما
يزيد على المصائب مصائب.
الأكيد، أن غياب التوافق السياسي في لبنان على حدّ أدنى من الأمور التي
تسمح للمؤسسات الدستورية بالعمل وبتوجيه الأجهزة الأمنية والعسكرية، في ظلّ
استمرار المقتلة السورية وصعود التنظيم السرطاني "داعش"، سينعكس مزيداً
من الاحتقان والأزمات. والأكيد أيضاً أن التخويف من "السنّة" اللبنانيين
وتمنّي تطرّفهم (والسعي الحثيث لذلك) لن يجلب إلّا الويلات ليس للسنّة فحسب، بل
للّبنانيين جميعهم.
زياد ماجد