ثمة علاقة عجيبة تجمع كثراً من الناس بصورة للثورة تبدو
فيها حدثاً بهيّاً رومنسياً تقوم به جماعات سلميّة أو مدنّية الطابع، إن هي نحت
نحو العنف اضطراراً بقيت منضبطةً أو محصورٌ عنفها في حلبة مصارعة النظام الذي قامت
ضدّه. ولعلّ في ذلك ما يفسّر إحالة أقوال مأثورة حول التسامح والقبول بالآخر أو
حول رفض التشبّه بالخصم سلوكاً وثقافةً الى قادة ثوريّين تاريخيّين، لا علاقة لهم في
أغلب الأحيان بها لا من قريب ولا من بعيد.
الغريب في الأمر أن لا مثال في التاريخ يبرّر هذه الصورة
المتخيّلة للثورات. فلا الثورة الأميركية وحرب الاستقلال، ولا
الثورة الفرنسية العظيمة، ولا الثورة البلشفية، ولا الثورات الصينية والكوبية والإيرانية
(وبينها حربي التحرير الفييتنامية والجزائرية)، ولا النضال التحرّري الجنوب إفريقي
ضد "الأبارتيد"، كانت ثورات "جميلة" أو زهرية اللون. جميعها كان
عنيفاً، ووقعت خلالها وبعدها حروب ونزاعات وتصفيات أخرجت في أغلب الأحيان أبشع ما
في المجتمعات، ولم تكتف مرّة بتظهير أجمل ما فيها. وهي بالأصل اندلعت لأن الأوضاع
كانت لفئات واسعة من الناس بائسةً وبشعة الى حدّ دفعها للخروج ضدّها بلا ضمانات
انتصار أو استمرارِ حياة. كما أنها على الدوام ازدادت عنفاً كلّما ازدادت وتيرة
عنف السلطات ضدّها، وكلّما تفاقمت صعوبة مهمّاتها.
من أين جاءت هذه الصورة المتخيّلة للثورات إذاً؟ على
الأرجح، من إيديولوجيّات جمّلت الفعل الثوري وصانعيه وحجبت صوَر فظاعات ترافقه،
ومن وقائع حصلت في دول ديمقراطية نشأت فيها حركات اجتماعية أو نزعات فكريّة وجدت
حاضنة شعبية واسعة اتّخذ سلوكها الثوري منحاً سلميّاً أو محدود العنف نتيجة
"سيادة القانون" واحترام السلطات لحقوق الانسان (ثورة ال68 في فرنسا والعديد
من الدول الأوروبية مثالاً)، ومن الانتفاضة العارمة التي رافقت انهيار جدار برلين،
كما من ملصقات وأفلام ثورية بنَت نماذج وقيم جمالية لا مجال لاختبارها خارج الحدود
الفنّية للملصقات أو للعروض نفسها.
وإذا كانت الثورة السورية التي اندلعت قبل ثلاثة أعوام
أكثر الثورات العربية شبهاً بالثورات العالمية الكبرى، فذلك لأن فيها مقداراً من
الجذرية والتمرّد ندر نظيرهما، وفي مواجهتها نظام مدجّج بمقدار من الهمجية والرياء
قلّ أن شهد التاريخ ما يماثلهما. وكان يمكن ربّما لهذه الثورة أن تشكّل نقطة تحوّل
في مسار تأريخ الثورات الكبرى لو ظلّت سلميّة أو بقي عنفها في حدّه الأدنى. لكن
ضراوة القمع الذي تعرّضت له (أولاً وثانياً وثالثاً) والذي كاد يقضي عليها (بشكلها
السلمي) قضاء مبرماً، ثم الإدارة السيئة للكفاح المسلّح وأشكاله، والصراعات
الإقليمية التي اتّخذت منه وسائل تصفية حسابات جعلت التحوّل التأريخي المشار إليه
متعذّراً.
وتضاعفت مع الوقت البربرية وظهرت صوَر من سجون النظام
الأسدي ومن المناطق المدنية التي قصفها وجوّعها تذكّر بالحرب العالمية الثانية.
كما ظهرت جماعات ظلامية (داعش وأخواتها) استفادت من الصراع الدائر الذي لا يعنيها
أصلاً لاحتلال مناطق وإعادتها الى القرون الوسطى. وظهرت كذلك سلوكيات إجرامية
وقمعية عند بعض القوى الثورية المسلّحة تذكّر ببعض سلوكيّات النظام، ولو على
مستويات لا يمكن مقارنتها بمستوياته، ليس لنقص في الإمكانيات والقدرات فحسب، بل
أيضاً لعلاقتها العضوية بالمجتمعات المحلّية حيث نشأت، وحيث تقاتل.
بهذا المعنى، من "الطبيعي" أو المنطقي أن ينشـأ
حوار وسجال حول عنف الثورة، وأن يرفض كثر كلّ سلوكيات خارج "قوانين الحرب
والسلم". ومن الضروري أن يُحافَظ على مسافة نقدية من الأحداث وألّا تُبرَّر موبقة
بذريعة عنف النظام أو مشروعية مكافحته. لكن ما ليس طبيعياً أبداً هو القول
بـ"لا ثورية" ثورة لاعتمادها العنف مكرهةً، أو اعتبار الأخير منطلقاً لمساواتها
بالنظام ومؤسّساته وآلة قتله الرهيبة...
زياد ماجد