تفيد الأرقام
الواردة من سوريا أن أكثر من 15 ألف مدني سقطوا حتى الآن بقصف طيران النظام لمدنهم
وبلداتهم منذ تموز 2012، وجُرح عشرات الآلاف الآخرين، ودُمّرت آلاف المباني والوحدات
السكنية، واضطُرّ مئات الآلاف للنزوح خوفاً من الموت الهابط عليهم من السماء. وقد
جمع "مركز توثيق الانتهاكات في سوريا" أسماء 9883 شخصاً قُتلوا جميعهم
نتيحة هذا القصف الجوّي، الذي انتفت معه حرّية
الحركة كما انعدم الأمان في معظم المناطق المحرّرة من احتلال النظام.
عسكرياً، يُجمع الخبراء أن سلاح الجو السوري حال بين أواخر العام 2012 وأوائل
العام 2013 دون سيطرة المعارضة على مناطق واسعة ظلّت للنظام قواعد عسكرية فيها
يزوّدها بالاحتياجات من الجوّ ويقصف محاصريها، إن في دير الزور والطبقة أو في حلب وريف
إدلب وبعض أنحاء حوران. ولعب هذا السلاح بعد منتصف العام 2013 دوراً حاسماً في الهجمات
المضادة التي شنّتها قوّات النظام مدعومة بالميليشيات المذهبية اللبنانية
والعراقية في ضواحي العاصمة دمشق وفي الخط الموازي للحدود اللبنانية كما في ريف
حمص الغربي، بما مكّنها من استعادة المبادرة هناك والسيطرة على مدن وطرقات
استراتيجية. ويحاول النظام منذ شهرين، عبر تكثيف استخدام الطيران في مدينة حلب
وضواحيها كما في محيط العاصمة ومحاور الغوطة، تحقيق تقدّم يحاصر من خلاله أحياء
وبلدات تسيطر عليها الكتائب العسكرية المعارضة. وينتهج النظام لهذه الغاية سياسة
إبادة من الجو لمناطق يتحدّر منها كثر من المقاتلين لجعلها أرضاً محروقة يستحيل
العيش فيها أو حتى القتال والتنقّل عبرها. وهو يستخدم براميل متفجّرة تحدث
دماراً هائلاً، ويسهل تصنيعها وإلقاؤها تجنّباً لاستنفاد كامل مخزونه من الصواريخ
الجوية العالية الكلفة، علماً أن روسيا رفعت مستوى الدعم منذ أشهر لا سيّما في ما
خصّ قطع الغيار التي يحتاجها لإبقاء أسطوله الجوّي المتقادم قادراً على مواصلة
المهمّات والطلعات الجوية.
بالتوازي مع ذلك، وضعت إيران تحت تصرّف النظام أواخر
العام 2013 منظومة طائرات بلا طيار، مكّنته من تصويب إحداثيات القصف خلال
العمليّات العسكرية إذ نقلت له صوراً واضحة عن المواقع العسكرية وتحرّكات
المقاتلين المعارضين. وبدا أثر ذلك جليّاً في بعض المعارك، خاصة في يبرود في منطقة
القلمون.
في المحصّلة،
لا مبالغة في القول بعد مرور 20 شهراً تقريباً على بدء اعتماد النظام الأسدي على
الطيران الحربي أن الأخير لعب دوراً حاسماً في تجميد تقدّم المعارضة المسلّحة، ثم
في تمكين النظام من استعادة المبادرة العسكرية في أكثر من محور أو من تدميره أكثر
من منطقة حيوية بالنسبة إليه كما بالنسبة الى معارضيه. وهو تسبّب بمجازر فظيعة ضد
المدنيّين وجعل حياة مناطق بأسرها رهينة براميله الهاطلة من الجو.
ماذا نستنتج
من كلّ هذا؟
يمكن القول إن
حظر المضادات الجوية أو الصواريخ أرض – جوّ الذي أصرّت وتصرّ عليه واشنطن في ما
يخصّ تسليح المعارضة مسؤول على نحو مباشر وغير مباشر عن الكثير من التطوّرات في
سوريا اليوم. ذلك أنه يؤدّي الى زيادة مآسي المدنيّين، ويمنع تعديل توازن القوى
الميداني على نحو جدّي يفرض على النظام وراعيتيه مراجعة مقارباتهم الميدانية
والسياسية للوضع السوري.
فحماية
المدنيين من القصف الجوّي عبر إسقاط الطائرات أو جعل مهامها، خاصة في إلقاء
البراميل، متعذّرة مسألة لا أهمّية تفوقها في حلب اليوم على سبيل المثال. وهي إذ
تقلّص الخسائر البشرية والمعاناة، تخفّف أيضاً من التهجير والأضرار المادية.
والسيطرة على مواقع للنظام وقواعد عسكرية ومطارات محاصرة (دير الزور ووادي الضيف
في إدلب مثالين) أو منع قصف الطيران من ارتفاعات منخفضة خلال المعارك (وما يعنيه
الأمر من فعالية) نتيجة الغطاء الدفاعي الجوّي الذي تُتيحه المضادات والصواريخ، يبدّلان
في الأحوال العسكرية الى حدّ بعيد. والأهمّ أنهما يرسلان رسائل حاسمة مفادها أن
ثمة عزم دولي على محاصرة النظام وعلى اعتبار كلّ حلّ سياسي يبدأ بإسقاطه، أو أقلّه
بإسقاط رئيسه.
أما الزعم
بأن إرسال أسلحة متطوّرة سيدفع موسكو وطهران في المقابل الى مضاعفة إرسالهما
للأسلحة والمعدّات فنفاق خالص لأن الخبراء العسكريّين يعرفون تماماً أن تعويض
الطائرات وكلفته ليسا كتعويض قذائف الهاون أو قطع الغيار أو صناديق الذخيرة. كما
أن إسقاط الطائرات يومياً سيضعضع استراتيجية النظام وحليفيه التدميرية والهجومية
القائمة، ناهيكم بتأثيره النفسي على الطيّارين، وعددهم محدود أصلاً وتجهيز بدلاء
لهم يستغرق سنوات. والحجّة الأميركية الممجوجة حول الخشية من وقوع الصواريخ بأيدي
إرهابيّين نفاق أكبر من الذي سبقه. ذلك أن تسليم الأسلحة النوعية هذه يتمّ عادة
تقسيطاً (بالقطعة) وفق قراءة جغرافية في ما يخصّ الحاجة. ويسهل اعتماد عناصر
تتولّى الأمر في كل منطقة بحيث تزوَّد تدريجياً بالصواريخ ويُقيّم دورياً أداؤها وعدد
الطائرات المروحية والمقاتلات التي أسقطتها. وليس صحيحاً أصلاً أن السابقة الأفغانية
أدّت الى تهريب صواريخ أرض جو وقاذفاتها الى السوق السوداء (حيث لا أثر لأي سلاح
مشابه)، ولم يجر استخدام هكذا أدوات في أي عملية "إرهابية" في أي بقعة
من العالم.
وإن أضفنا
الى ما وَرَد رأياً مفاده أن تزويد الجيش الحر عامي 2012 و2013 بأسلحة حديثة (من
ضمنها مضادات للدروع وللطيران) كان ليقوّي هذا الجيش ويحدّ من ظاهرة الانسحابات
منه التي استفادت منها فصائل إسلامية متطرّفة أكثر تجهيزاً وتمويلاً، وكان ليشجّع
ضبّاطاً وجنوداً من جيش النظام على الانشقاق، لأمكننا الجزم أن ما ارتُكب ضد سوريا
نتيجة التمنّع عن مساعدة المعارضين نوعياً قبل تفاقم الأوضاع وتكاثر الجماعات
المسلّحة وفوضاها وتعاظم الإصابات والمجازر والخراب هو جريمة سياسية موصوفة من
ناحية، ومساهمة في الجرائم الميدانية المستمرة من ناحية ثانية.
لكلّ ما ذُكر
ولغيره من الأسباب، لا بدّ من جعل مطلب "مضاد الطيران" مطلباً أوّلاً
وثانياً وثالثاً. فالواضح أن موسكو وطهران مصرّتان على التصعيد العسكري والاستفادة
من التقاعس السياسي الدولي والإقليمي. والواضح أيضاً أن الاعتماد الأول في هذا
المسار هو على هجمات الطيران وقصفه التدميري. ولا يمكن بالتالي الردّ على الأمر
دون تقويض العنصر المحوري في الخيار العسكري هذا عبر جعل الطائرات هدفاً رئيسياً يحمي
المدنيّين ويمنع النظام من تحقيق أي تقدّم على الأرض. وفي ذلك وحده ما قد يغيّر
الكثير من الأشياء، إن في الاتصالات السياسية أو في المشهد الميداني أو في معاناة
السوريّين اليومية من البراميل والسامحين حتّى الآن بإلقائها فوق رؤوسهم...
زياد ماجد