ليس من باب الإفراط في
التشاؤم ولا من سبيل التهويل أن يقال إن ما يجري راهناً من تفجيرات إنتحارية
تستهدف أحياء في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي الهرمل، أو من اغتيالات سياسية تُردي
خصوماً لحزب الله، يشبه في بعض الجوانب ما يجري في العراق منذ سنوات ما بعد الغزو
الأميركي وتوسّع النفوذ الإيراني والصراع على السلطة الجديدة.
والحالة اللبنانية، كما
كانت شبيهتها العراقية بهذا المعنى حصراً، تعني في انحدارها المرعب نحو العنف
والقتل حرباً أهلية من نوع لا تبدو فيه الحاجة ملحّة الى خطوط تماس وسيطرة على
مناطق محدّدة وبروز تنظيمات متقاتلة واضحة الملامح. ذلك أنه لا مقدرة عسكرية لأي
طرف على مواجهة حزب الله مواجهة "كلاسيكية" مباشرة في المدى المنظور،
وهو المالك جيشاً لم يتوقّف بناؤه وتعزيزه منذ التسعينات، والمتفوّق عقدين من
الزمن على جميع خصومه المحتملين إن حاولوا الاقتداء بتجربته، والقادر فوق ذلك على
منعهم عبر مؤسسات الدولة اللبنانية ذاتها من تقليده وتلقّي شبَه ما تلقّاه من عتاد
وأموال وأسلحة. لذلك، فالتعويض عن اختلال موازين القوى يتمّ باعتماد بعض الجماعات على
بنىً مرنة، مجهولة التفاصيل، غير مجهزّة بأكثر من مواد تفجير وسيّارات مسروقة
وإرادة انتحار ونحر. وهذا ما يصعُب على أيّ كان ضبطه أو وقفه بالكامل.
على أن السؤال الذي يطرح
نفسه هو "من الذي أوصل الأحوال اللبنانية الى هذا الوضع الخطير ومن يتحمّل
مسؤولية وقوع التفجيرات التي طالت مدنيّين آمنين وسرقت أعمارهم وأرزاقهم؟"
لا شكّ أن الإجابة مركّبة. فيها
القتَلة وزادهم الإيديولوجي وكراهيتهم التي شهدت مناطق كثيرة في المنطقة والعالم
تفجّرها وحقدها الأعمى. لكن فيها أيضاً حزب الله الذي استجلب بسلوكه المستفزّ
والمذهبي منذ العام 2005 بعضهم الى لبنان، أو ساعد على نشوء أوضاع تحوّل شبّاناً
لبنانيّين الى نظراء لهم. فمِن مظاهرة الشكر "لسوريا الأسد" بعد جريمة
اغتيال الحريري، الى حفلات الشتم والتخوين واتّهامات الخصوم بالعمالة لتل أبيب،
الى 7 أيّار 2008 واجتياح أحياء بيروتية وإسقاط حكومة بقوّة السلاح، الى كانون
الثاني 2011 وإسقاط حكومة ثانية بعد التلويح باستخدام السلاح، وصولاً - وهنا
الأهمّ والأخطر – الى الانخراط قتالياً لنصرة النظام الأسدي في مذابحه ضد
السوريّين، جرى الضغط والترهيب والتعدّي على رأي عام وعلى فئات واسعة في لبنان
وسوريا، وجد "التكفيريّون" ضالتّهم في بعض أوصالها وصاروا بالتالي
حاضرين فعلاً في بيئاتها.
ومن لا يريد قبول المسؤولية
هذه ويبرّر الحرب الحزب-إلهية داخل سوريا باعتبارها استباقاً كانت لولاه التفجيرات
أكثر عدداً وضرراً في لبنان (وفي فلسفته الاستباقية هذه استعادة لنغمة إسرائيلية
ثابتة)، ما عليه سوى أن يوضح لماذا لم يشهد لبنان منذ "المدّ التكفيري"
وتعاظم الظاهرة الانتحارية بعد العام 2003، أي حالة تفجير مماثلة. وعليه أن يوضح
أيضاً لماذا لم تؤدّ الاحداث اللبنانية الجسيمة جميعها حتى العام 2013 الى تفجير
إنتحاري أو إرهابي واحد في الضاحية أو الهرمل، ولماذا لم يبدأ الأمر إلّا بعد
معارك القصير والست زينب وبعد إرسال آلاف المقاتلين اللبنانيين لنجدة الأسد
وملاقاة آلاف آخرين وافدين من العراق للسبب عينه.
يمكن لحزب الله وأنصاره الاستمرار
بالمكابرة. ويمكن لهم النزوع كما سبق وجرى في كل محطة انحدار إضافي نحو أهوال
العنف الى التذرّع بالمؤامرات والاستمرار في نهج ادّعاء الحقّ المطلق وشيطنة الآخرين.
لكن كلّ ذلك لن يغيّر اليوم وغداً في حقيقة أن لبنان ينزلق بثبات نحو
"السيناريو" العراقي، وأنه ليس للبنانيين كثر سوى الترحّم على الضحايا
وتقديم التعازي والاحتكام الى الأمل في أن تتمكّن الأجهزة الأمنية قريباً من تقليص
الأضرار. أما "عودة الرشد" وانسحاب حزب الله من سوريا وتشكيل حكومة
قادرة على ممارسة مهامها وفرض سلطانها، فتبدو اليوم أحلاماً الى الوهم أقرب...
زياد ماجد