Wednesday, March 29, 2023

ماذا يعني التطبيع العربي مع نظام الأسد؟

تتسارع منذ أشهر وتيرة تطبيع أنظمةٍ عربية مع دمشق، بحجج مختلفة، آخرها "إنساني" بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري.

وإذا كانت الإمارات العربية المتّحدة قد استهلّت التطبيع المذكور العام 2018 مدّعية أنه يهدف الى إيجاد حضور عربي في بلد باتت تحتلّه وتدير النزاع والمفاوضات فيه روسيا وإيران وتركيا، فإن السعودية تبدو اليوم مرشّحة لاستهلال جولة ثانية في مساره، متخلّية عن معظم شروطها أو متراجعة عن أبرز ما كرّرته خلال السنوات الماضية.

فما الجديد الذي يدفع عواصم المنطقة الى مصالحةٍ مع نظامٍ عادَتهُ سابقاً لاضطرارٍ وقسرٍ أو لتحالفه العضوي مع إيران؟

يمكن ذكر ثلاثة أسبابٍ لتفسير ذلك.

السبب الأول، يرتبط بخريطة التموضعات الإقليمية الجديدة والتنافس بين عدد من الدول على أدوار سياسية واقتصادية في مرحلةٍ يستمرّ فيها الانكفاء الأمريكي عن بعض ملفّات المنطقة واكتفاء واشنطن بتجميد نزاعات من دون السعي لإيجاد حلول فيها. وسوريا هي راهناً البلد الأكثر عرضة لهذا التنافس، بعد تعذّر إسقاط النظام نتيجة الدعم الإيراني والروسي له، بموازاة تعذّر الوصول الى تسوية شاملة تمكّنه من إعادة بسط سطوته على كامل البلاد نتيجة الواقع الميداني شرقها وفي شمالها الشرقي حيث القوات الكردية محميّة من واشنطن، وفي شمالها وشمالها الغربي حيث بعض فصائل المعارضة برعاية القوات التركية تسيطر على الأرض والحدود.

وهذا يدفع عدداً من الدول الى التصرّف في سوريا بوصفها ساحة مفتوحة لتصفية حسابات أو تَوَسُّعِ أدوار. فإسرائيل تضرب فيها القوات الإيرانية والحليفة لها التي تعمل من جهتها على تعزيز مواقعها وبناء شبكاتها. والإمارات تحاول الدخول كطرفٍ نجح في قيادة الثورات المضادة لإرجاع "الأحوال العربية" الى ما كانت عليه قبل العام 2011، واعدةً بالاستثمار في عملية إعمارٍ منشودة. أما السعودية، فتبدو الآن بعد "تطبيعها" مع إيران جاهزة قنصلياً أولاً ثم ديبلوماسياً لتطبيع مع دمشق يجعلها عرّابة عودةٍ سوريةٍ الى جامعة الدول العربية ومصالحات تستبق القمّة المقبلة في الرياض (أو تليها) لتتويج دور زعامتها المُستعاد.

السبب الثاني، عطفاً على الأول، يتأسّس على توهّمٍ لدى الإماراتيين والسعوديين مفاده امتلاك قدرة تأثيرٍ على نظام الأسد الذي لم ينفع إنقاذه العسكري روسياً وإيرانياً في فكّ الحصار الغربي عنه حتى الآن، ولم يوفّر له استثمارات أو مساعدات تمكّنه عبر ذريعة "إعادة الإعمار" من تمويل قواعده الزبائنية وأجهزته الأمنية والسياسية. وهذا يوحي للدافعين باتجاه التطبيع بأنهم يستطيعون مقابل إعادة فتح الأبواب العربية لدمشق تقريبها منهم على حساب طهران، وتحجيم دور تركيا، كقوّة إقليمية "سنيّة" وحيدة كانت تنافس إيران "الشيعية"، وإقناع الغربيين ببدء الانفتاح على دمشق بمعيّتهم وضماناتهم المُلزِمة للأخيرة.

على أن التدقيق في هذه المزاعم أو المقولات يظهر تهافتها. فلا أبو ظبي والرياض تملكان قوات عسكرية في سوريا تحمي محاولاتهما لعب أدوار سياسية فيها، ولا طهران بوارد التراجع عن نفوذها هناك وليس ثمة ما يدفعها لذلك، ولا الأسد يقدر أصلاً أن يحجّم الدور الإيراني الذي يدينُ له جزئياً بالنجاة، ولا تركيا ستُخلي الشمال السوري دون "تسوية" مُرضية لها للمسألة الكردية لا يبدو أن واشنطن بوارد القبول بها في المستقبل القريب. وهذا يعني أن الانفتاح الخليجي (العربي) على الأسد سيكون على أرض الواقع من دون مقابل سياسي فعلي كبير.

السبب الثالث يتعلّق بما سبق ذكره، أي ما يُسمى إعادة الإعمار وصفقاتها، في ظل عجز اقتصادي إيراني وروسي عن إطلاق ورشها، وتمنّع غربي عن الدخول في معتركها، وعدم رغبة صينية في التورّط فيها لأسباب عديدة تتّصل بأولويات بكين في السنوات المقبلة. وهنا أيضاً لا تبدو الرياض بعد أبو ظبي مدركةً كفاية لقدرة نظام الأسد (وحليفيه الإيراني والروسي) على ابتلاع الأموال وفرض الخوّات على المشاريع والتشارك في الأرباح (من دون مساهمات في رؤوس مالها)، بما يحول دون الاستفادة الخليجية اقتصادياً منها، ودون ترجمة عملية "الإعمار" ذاتها الى دور سياسي "عربي" فاعل. هذا حتى قبل الإشارة الى العقوبات التي يمكن أن تطال المستثمرين الخليجيين في سوريا نتيجة آليات "قانون قيصر" وغيره من الآليات العقابية الامريكية...

التطبيع مع القتل

بناءً على ما تقدّم، يصبح أمر التطبيع مع نظام الأسد مجرّد تطبيع بلا شروطٍ قابلة للتحقيق مع مجازر أردت أكثر من نصف مليون شخص وطردت من سوريا سبعة ملايين "مواطن" تحوّلوا الى مشرّدين ولاجئين، وتبدّلت بخروجهم خصائص الديموغرافيا الاجتماعية والمذهبية السورية، ومع عمليات تعذيب واغتصاب واحتجاز وتهجير داخلي طالت ستة ملايين آخرين، ومع سياسة ابتزاز بواسطة مخدّرات "الكبتاغون" التي تتّهم الرياضُ دمشقَ بتصديرها عبر حدود الأردن إليها... ويصبح أمر التطبيع كذلك تطبيعاً مع واقعٍ فرضه احتلال بلدٍ عربي من قبل العديد من القوى الخارجية، في طليعتها روسيا وإيران.

لكن هذ التطبيع مع الأسد سيبقى لفترة طويلة محصوراً في إطارٍ عربيّ جزئي. وحتى لو انخرطت تركيا فيه بعد انتخاباتها الرئاسية، فسيبقى إقليمياً. ذلك أن ترسانة العقوبات الأمريكية والأوروبية على الشركات والأفراد المرتبطين ببنية النظام السوري وعلى بعض المؤسسات العامة التي تسمح له بتمويل آلته القمعية، مضافةً الى العقوبات المفروضة لأسباب أوكرانية على روسيا ونووية على إيران وتداعياتها السياسية سورياً، تؤجّل احتمالات التطبيع دولياً مع دمشق. كما أن تلاحُق القضايا المرفوعة من حقوقيين سوريين وأوروبيين ضد الأسد وأجهزته أمام المحاكم المختصّة في ألمانيا وفرنسا وهولندا والسويد وسواها يزيدُ من الضغط على دُعاة التطبيع وأنصاره الغربيّين، ويؤجّل حملاتهم برمّتها.

مصالحة المملكة السعودية للنظام السوري ستبقى إذاً في المرحلة المقبلة محكومةً بسقوف معيّنة، الأوهام فيها أكبر من المعطيات المادية أو الواقعية. وهي تشير في أيّ حال، كما المصالحة مع إيران والوساطات العُمانية والإماراتية، الى خيارات إقليمية ما زالت كثرة من معالمها مرتبطة بإيقاعات السياسة الأمريكية حضوراً في المنطقة أو غياباً أو انكفاءً مؤقّتاً...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي