Monday, April 10, 2023

أمريكا والتمرّد عليها

ثمة مفارقة تزداد حضوراً في العلاقات الدولية منذ أعوام، مفادها استمرار سطوةِ أمريكا كقوّةٍ عظمى من ناحية، وتزايد حالات التمرّد عليها في الخيارات السياسية والاقتصادية لدول كثيرة، بينها تلك الحليفة أو الصديقة لها، من ناحية ثانية. 

كيف يمكن تفسير هذه المفارقة، بعيداً عن سذاجة نظريّات المؤامرة والقول بتوزيع الأدوار وسماح أمريكا بذلك أو حتى إيعازها به، وبعيداً أيضاً عن المزاعم التبسيطية المضادة حول أفول عالم أو صعود عالم جديد بموازين قوى متغيّرة؟

يفيد بداية، قبل الإجابة عن السؤال، التذكير بمعنى التفوّق الأمريكي الكوني المستمر، وغير المهدّد بالتبدّد، بمعزل عن تراجع سياسي موضعي هنا أو صعود اقتصادي منافسٍ هناك، وبمعزل أيضاً عن أي تقييم حقوقي أو سياسي له ولما يحمله من انحيازات وانتهاكات ودفاع عن مصالح قد تكون على حساب قوانين ومواثيق كثيرة.

فأمريكا ما زالت اليوم الاقتصاد الأول والأكثر حيوية بناتج قومي هو الأعلى في العالم (23 تريليون دولار العام 2021). وحتى لو تخطّتها الصين بعد عشر سنوات (ناتجها حالياً 17 تريليون)، يبقى حجم الاقتصاد بالنسبة لعدد السكان لصالح الأمريكيين (331 مليون أميركيٍ مقابل مليار و500 مليون صيني)، ومثله التبادل التجاري والتعاملات المالية والمصرفية الأمريكية مع أبرز دول الاقتصادات الكبرى (اليابان وألمانيا وفرنسا وبريطانيا).

وفي السياسة، ما زال ثقل الأمريكيين إن قرّروا الحضور في أي ملفّ أو تدخّلوا فيه الأعمق تأثيراً ونفوذهم الأوسع مدىً، ولَو أنهم عدّلوا مرحلياً في أولوياتهم الخارجية ومناطقها وطرقها، ولنا عودة الى ذلك لاحقاً.

وفي العلوم والتكنولوجيا، تأتينا منذ عقود طويلة معظم الاختراعات والتطوّرات النوعية من المختبرات والمعاهد والمصانع الأمريكية. يسري الأمر على الطب والأدوية، ويسري على المعدّات الثقيلة ووسائل النقل وأجهزة الكمبيوتر والكهربائيات وأدوات الاتصال والتواصل، ويسري أيضاً على شؤون الهندسة وبرامج الفضاء وصواريخه ومعدّاته.

ولا تشذّ الصناعات العسكرية ونوعية أسلحتها وعتادها اللوجستي والمعلوماتي عن ذلك، إضافة الى حجم مبيعاتها وحصّتها من السوق العالمية، حيث تحلّ روسيا وفرنسا بعيداً وراءها، وتفوق مبيعاتها مبيعاتهما ومبيعات الدول الخمس التالية في التصنيف الدولي مجتمعةً.

ربطاً بما ورد، وبما يُعدّ أهم منطلق للمحافظة على السبق في المضامير العلمية ومؤدّياتها التكنولوجية والصناعية المذكورة، تحافظ الجامعات الأمريكية الكبرى على تفوّقها الكوني لجهة تطوير منهجيات التعليم والبحث الأكاديمي وإنتاج المعرفة. وما زالت موازناتها كما موازنات مراكز الأبحاث والسياسات العامة وقدراتها على تمويل الأطروحات ونشر الكتب والمجلات المختصة متقدّمة بما لا يقاس على مثيلاتها في جميع الدول، وهذا يمكّنها من استقطاب نخب من أنحاء العالم دراسةً ثم تدريساً، أو أقلّه ارتباطاً بها وبنوادي خرّيجيها وبرامج زمالتها. ولا تشكّل الصين أو روسيا بالطبع أي تهديد أو منافسة لذلك لا راهناً ولا مستقبلاً، لأسباب كثيرة تبدأ بالقدرات المادية والخبرات المتراكمة، وترتبط بشكل وثيق بما تفرضه النُظم السياسية المتسلّطة أو الدكتاتورية من محدوديةِ جاذبيةٍ ومن انتقاصٍ من حرّية التعليم والتفكير والابتكار (غير التقني) واختيار حقول الدراسة. كما لم تستطع أوروبا اللحاق بأمريكا في هذا المجال لفوارق بين إمكانات جامعاتها وموازناتها وأحجامها.

بموازاة ذلك، تواصل أمريكا تمويل مؤسسات خاصة ومنظمات غير حكومية وبرامج مجتمعية وسياسية حول العالم بما يزيد من سعة نفوذها وشبكات معارفها وتماسها مع شؤون كونية مختلفة. تُعينها على هذا وتُؤمّن ديمومته وديمومة سواه ممّا عرضنا هيمنة اللغة الإنكليزية وتحوّلها الى لغة التواصل الأولى في العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية الدولية.

وهذا يحيلنا الى أمر آخر، يرتبط بما يمكن تسميته بصناعة المخيّلة وبناء المرجعيات والذائقة وأدوات الاستهلاك المشتركة بين شعوبٍ من القارات جميعها. والتفوّق الأمريكي المطلق هنا بات أكثر إبهاراً. فمن الموسيقى بمدارسها المختلفة الناشئة منذ بدايات القرن العشرين، الى أفلام السينما وبرامج التلفزة والفنون عامة، لا مثيل للحضور الأمريكي ونجومه ومنتجاته ومصطلحاته ومرجعيّاته، بالرديء منها والمتوسّط والعالي الجودة.

وإذا ترجمنا كلّ ما ورَد في حياتنا اليومية وما صارت تتطلّبه في حاجاتها وإيقاعاتها ووسائل ترفيهها، لوقفنا على حجم الحضور الأمريكي عبر الهواتف الذكية وبرامجها، وعبر التطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي كما عبر المأكل السريع وأصنافه والملبس "العملي" وأطواره.

لهذه الأسباب ولغيرها، تبقى أمريكا القوة العظمى الأولى الخشنة والناعمة في الوقت عينه، ولو أنها تحوّلت تدريجياً بعد حربها في العراق العام 2003 ونتائجها الكارثية، ثم بعد انتخاب باراك أوباما العام 2008 ودونالد ترامب العام 2016، الى الانتقائية في تعاملها مع الشؤون الدولية، والى ميلٍ عام الى لا-تدخّلية سياسية سبق أن شهدت واشنطن في تاريخها المعاصر مراحل ابتعد خلالها البيت الأبيض عن ملفات وأحداث دولية كثيرة. وقد عبّر أوباما عن ذلك حين قال بضرورة أن تكفَّ بلاده عن لعب دور "الشرطي" في العالم، وأن تبتعد عن وهم القدرة على حلّ جميع الصراعات وأن تمتنع عن التدخّلات العسكرية إلا في حال "تهديد الأمن القومي" الأمريكي. كما أشار دونالد ترامب الى التوجّه نفسه (ولَو بلغة مختلفة) خلال ولايته الرئاسية إذ اعتبر أن على واشنطن تقليص موازنات دعمها لمعظم حلفائها، والحدّ من تمويلها لحلف شمالي الأطلسي ولهيئات الأمم المتحدة، والتركيز على أولويات اقتصادية داخلية. 

على أن هذا لم يعنِ انكفاءً كاملاً في السياسة الخارجية. بل عنى حاجة الى تغيير المقاربات والنظر في الأولويّات، والى البحث عن صفقات وعقود اقتصادية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وشرق آسيا بمنأى عن السياسة طالما أن لا مشاكل أمنيةً لأمريكا تأتي مباشرة منها، والى تبديل شروط العلاقة مع أوروبا، وتعديل السياسات في "الشرق الأوسط" الذي تراجعت أهمّيته الاستراتيجية لتراجع مخزون النفط فيه، ولاستحالة حل "الصراع العربي الإسرائيلي" الذي يُكتفى بالضغط لتخفيض العنف على جبهاته وتشجيع تطبيع أنظمة عربية مع إسرائيل مع استمرار دعم الأخيرة كحليف مقرّب، أقلّه في المستقبل القريب. وفي حين مالَ أوباما الى تسوية شاملة مع إيران دونَ اكتراثٍ بآراء دول الخليج العربية التي كانت تعدّ نفسها الأقرب الى واشنطن (بعد إسرائيل)، تراجع ترامب عن ذلك، وألغى الاتفاق النووي مع الإيرانيين ليعود جو بايدن الى التفاوض معهم من جديد (بلا نتائج بعد)، بمعزل عن آراء الخليجيين الغاضبين إياهم. 

في المقابل، تحوّلت منطقة بحر الصين ومثلها المحيطين الهادئ والهندي الى معاقل للانتشار الأمريكي الأهم بالنسبة للبيت الأبيض، تطويقاً للصين ولجماً لتوسّع نفوذها الاقتصادي، مساعدةً لتايوان في مواجهتها، وتطويقاً أيضاً لكوريا الشمالية وضغطاً على نظامها. أما مع روسياً، فتراجعت العلاقة أيام أوباما لتتحسّن أيام ترامب لتتدهور كثيراً منذ تولّي بايدن الرئاسة، وخاصة منذ بدء العدوان الروسي على أوكرانيا العام 2022 التي غيّر الكثير من الأمور، ودفع واشنطن الى إنفاق أكثر من 20 مليار دولار لتمويل الجهد الحربي الأوكراني، وقد تنفق المبلغ نفسه في المقبل من الأشهر.

ودفعت هذه التطوّرات الكثير من الدول المستاءة من السطوة التاريخية والتدخّلات الأميركية السابقة المتكرّرة في العديد من القارّات، ومثلها الدول المستاءة للأسباب النقيضة تماماً، أي من القرار الأمريكي "بالتقليل من التدخّلات"، الى تأكيد "استقلاليّتها" أو سعيها لتوسيع خياراتها التحالفية الدولية. سرى هذا بداية على دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا والهند، وسرى أيضاً على تركيا، ثم مؤخراً على السعودية. واستفادت منه روسيا والصين الساعيتان الى بناء تحالفات جديدة في الشرق الأوسط وفي آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية.

ويمكن القول في ما خصّ الشرق الأوسط إن ما بدا للعديد من الأنظمة، وفي مقدّمهم السعودية والإمارات، تخلّياً أمريكياً في لحظة الثورات العربية العام 2011 عن حليفين هما حسني مبارك وزين العابدين بن علي، ثم إحجاماً عن التدخّل في سوريا لهزيمة إيران بالتزامن مع مفاوضات للتوصّل الى اتفاق معها، دفع الأنظمة المذكورة الى إجهار التمرّد على واشنطن وتعزيز العلاقات مع موسكو وبكين. ثم دفعتهم حاجة أمريكا إليهم بعد غزو روسيا لأوكرانيا لمدّ حلفائها بالطاقة والمحافظة على التوازن في سوقي النفط والغاز الى إظهار قدرتهم على المناورة وتوسيع هوامشها "انتقاماً" من عدم أخذ مطالبهم الإيرانية السابقة بعين الاعتبار.

هكذا بدت الصورة العالمية المستجدة في العقدين الأخيرين حمّالة تأويلات ومدعاة اجتهادات ومبالغات حول أمريكا وأدوارها ووظائف سياساتها الخارجية.

وإذا كانت متغيّرات اقتصادية وسياسية قد طرأت بالفعل في السياق الدولي، ومثلها في السياسة الامريكية، إلا إنها لم تزعزع بعد دعائم التفوّق الأمريكي. لكنها سمحت بتمرّد دولٍ عليه أو ببناء تحالفات سياسية لا تتطلّب على الدوام مباركته ولا تسعى كذلك الى القطيعة "النهائية" معه، وهو المعروف أصلاً بلا نهائيات قراراته البراغماتية وبقدرته على التكيّف والتعامل السريع مع المتغيّرات والتحدّيات...

زياد ماجد

مقال منشور في ملحق القدس العربي