Sunday, November 18, 2018

عن بعض حُكّام عالمنا وما يمثّلون

لم يعُد فوز المرشّحين ذوي النزعات الشعبويّة، المعبّرين عن عنصريّة أو عن احتقار لقيَم التسامح والعدالة وحقوق الإنسان وعن كراهية للنُخب السياسية "التقليدية" ومؤسّساتها، بالأمر المفاجئ في الكثير من دول العالم. فالرجال "الأقوياء"، شديدو الفظاظة وسوقيّو المصطلحات والتشبيهات، عنيفو النزعات ممّن يُفصحون غالباً عن افتتانهم بالبدلة العسكرية بوصفها بديلاً عن بدلات رجال السياسة المدنية "الفاسدة"، أو عن تمسّكهم بِقيم دينية تخطّتها معاهدات حقوقية دولية وتشريعات وطنية وسلوكيات بشرية، صاروا اليوم حكّاماً أو مشاريع حكّام في عددٍ من أكبر الدول الديمقراطية أو شبه الديمقراطية. يحكم بعضهم في واشنطن وبرازيليا، وفي روما وبودابست، كما في مانيلا وكاراكاس، ويصبو بعضهم الآخر للحُكم في عواصم غربية عدّة تَقدّم فيها خطابه في السنوات الأخيرة.

وكان قد سبقهم جميعاً نموذجان تسلّطيّان، في أنقرة وموسكو، يملك كلّ منهما مرجعيّته الإيديولوجية ومشاريع حُكمٍ وماكينات إنتخابية فاعلة أو أجهزة قمعية منظّمة، أعالت الأوّل على الفوز المتكرّر بالانتخابات التركية والسيطرة على الحياة السياسية (خاصة بعد محاولة الانقلاب العسكري عليه)، في حين مكّنت الثاني من إنهاء تلك الحياة في روسيا والاندفاع نحو الساحة الدولية لاستعادة دورٍ فيها والتأثير في مجرياتها بالقوّة السافرة حيناً وبالتحالفات وشبكات الانتفاع وسلاح الإشاعات الفعّالة حيناً آخر.

أزمة الديمقراطية

ولعلّ أبرز ما يعكسه هذا المدّ الشعبوي عالمياً، المعطوف على مدّ قومي متشدّد كما في الهند أو رغبة بالانعزال كما في قرار "البريكسيت" البريطاني، هو تراجع الديمقراطية كفلسفة حكم والربط بينها وبين "إستبلشمنت" مُتقادم من جهة، وبينها وبين مظالم الرأسمالية المتطوّرة في ظلّها من جهة ثانية.
في الحالة الأولى، تَعمّم كيلُ الاتّهامات للنُظم السياسية الديمقراطية التي تمفصلت حول أحزاب وتشريعات وضرائب ووسائل إعلام وكتل ضغطٍ لم تعُد قطاعات واسعة من الناس تجد فيها ما يمثّلها أو يدافع عن قضاياها. وفي الحالة الثانية، أصبح شائعاً الحديث عن الفروقات الهائلة في الدخل وعن تمركز الثروات وعن البطالة وانسداد أفق ذوي الدخل المحدود بوصفها مثالب وفّرتها بيئة الديمقراطية ومؤسساتها الدولية للرأسمالية ولتطوّرها الكوني على حساب مصالح "محلية". ويُعطف على الأمرين ويُبنى عليهما رفض مطلق لنظريّات علمية حول كوارث البيئة والأخطار المستقبلية المُحدقة بالمعمورة بوصفها "تآمرية" هادفة الى تقليص أنشطة في قطاعات صناعية "قومية" تستهدفها قوانين عالمية أو إقليمية (أمم متّحدة أو إتحاد أوروبي) هي في ذاتها خصمٌ لكلّ ما هو وطنيّ.

هكذا، يُصبح أيّ خطاب شوفيني داعٍ لمواجهة قوانين دولية، أو شاتمٍ للنخب السياسية والثقافية التي أرستها ونظّرت لها، أو واعدٍ بحلّ مشاكل البطالة عبر منع الهجرة وطرد الأجانب وإقفال الحدود، أو مُغازلٍ لمفاهيم مناقضة لحرّيات خاصة ولمساواة حقوقية بين الجنسين أو بين الأعراق، يصبح ذا شعبية تتقدّم وتتراجع على إيقاع الأزمات. ولأن الأخيرة متزايدة، يبدو بدوره في مدّ متعاظم.

نتج عن كلّ ذلك ثمّ غذّاه وعمّمه تراجع ما سُمّي بالـ"بوليتيكلي كورّكت" أو "الصحيح سياسياً"، أي الفارض رقابة ذاتية على عبارات واستعارات يُشتمّ منها تمييزٌ عرقي أو جنسي أو ديني، وانفلات خطاب لم يعُد يبالي كثيراً من تصنيفه بالعنصري أو الإسلاموفوبي أو الذكوري/الميزوجيني المعادي للنساء وللحقوق التي انتزعنها أو الكاره للحرّيات الفردية، أو حتى المعادي للسامية.

وليس مفاجئاً في السياق عينه أن الشعبوية في معظم الدول الغربية إذ تحمل الخصائص المذكورة، تبني عليها سياسات قد تبدو مناقضةً لما يُفترض أنه مؤدّياتها. فمعاداة مظالم الرأسمالية لم تمنع من انتخاب من استفاد منها ويُنادي بمنع تقييدها. ومعاداة السامية لا تحول دون مضاعفة التأييد لإسرائيل طالما أنها بعيدة وتقاتل "مسلمين" من "السكّان الأصليّين"، والتمسّك بقيم مسيحية لا يحرّم كراهية المُهاجرين واللاجئين الفقراء ولَو كانوا هم أنفسهم مسيحيّين، والإسلاموفوبيا لا تُناقض توطيد العلاقة ببعض الدول الأكثر محافظةً إسلامياً بما أنها تعود بفوائد ماليّة. فالخليط القيَمي المكوّن للشعبوية يجعلها تنهل من منابع عدّة وتوفّق بين عواطف وغرائز ومصالح مختلفة وتبحث عن نظريّات مؤامرة تستهدفها في كلّ ما تعتبره منافياً لإرادتها السياسية، تتحدّاه أحياناً ثم تستسلم له وتستمرّ بالتحريض ضدّه للمحافظة على تعبئتها ومظلوميّتها في أحيان كثيرة.


البوتينية مثالاً أعلى

إذا كان حال الشعبوية ونزعاتها المتطرّفة يتقدّم منذ سنوات ويصل في شقّه اليميني الى الحكم في دول غربية ذات تقاليد راسخة في الديمقراطية أو متحوّلة منذ عقود إليها، وإذا كان هذا التقدّم تسارع مع تعاظم موجات الهجرة واللجوء في العالم بعد العام 2012، لا سيّما اللجوء السوري الذي استُخدم من قبل اليمين وأقصى اليمين الأوروبيّين للتخويف من مفاعيله "الديموغرافية والقيميّة"، فإن الاستظلال بهذه الشعبوية والتشبّه بالكثير من ثنايا خطابها مسألتان مطروحتان أكثر فأكثر في العالم العربي.

ذلك أنّ عدداً من الحكّام العرب لم يعد في حرجٍ أو ضيق أو خشية وسمٍ بالتسلّط والرجعية وممارسة العنف. وهو في هذا، بعد نجاح الثورات المضادة في الانقضاض على الثورات التي اندلعت العام 2011، مثله مثل دول كثيرة صغرى ومتوسّطة (كوبا وكوريا الشمالية) أو عُظمى (الصين) أو مجاورة لحدوده (إيران)، لم يُكنّ مرّة إعجاباً بالديمقراطية أو بحقوق الإنسان، بل كان يُضطر نتيجة بعض الضغط أو العلاقات الثنائية بدول مانحة أن يدّعي ما لم يسعَ إليه وأن يوقّع مواثيق واتفاقات تحفظ ماء وجه شركائه أكثر مما تقيّده باحترامها. فكيف وأن الديمقراطية ذاتها تتراجع لدى كثرة من الشركاء هؤلاء؟
ولماذا على الرئيس السيسي أو وليّ عهد الإمارات أو نظيره وصديقه السعودي مثلاً أن يدّعوا ما هو أكثر من ضبط الأمور وتأمين الاستقرار وتنفيذ "إصلاحات" من فوق عبر تحديث ظاهري لبعض القوانين والممارسات بمعزل عن حقوق الانسان والقانون الدولي والتدخّلات العسكرية، طالما أنهم يتعاملون مع ترامب وأوربان وسيلفيني وبولسونارو؟ ولماذا على الأسد أن يخشى تبعات الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظامه طالما أنه محميّ ومدعوم من فلاديمير بوتين ومن موسكو، قُبلة أكثر الشعبويّين يميناً ويساراً؟

بهذا، تبدو أمور العالم سائرةً أكثر فأكثر نحو المزيد من التأزّم والتصارع والعنف، وتبدو مواقع الديمقراطية ومؤسّساتها محاصرة من أعدائها ومن أخطائها وتراجع قدرتها على تأمين شروط العدالة في مجتمعات تتعمّق الفجوات داخلها وتتكاثر المظالم التي أنزلتها النيوليبرالية الاقتصادية بها (وبالعالم) منذ ثلاثة عقود.
ويُخشى في ظلّ ذلك أن تُصبح البوتينية مذهباً يسير عليه حُكّام أو مشاريع حكّام إضافيّين. ويُخشى أكثر أن تدخل جرعات من القذافية الى هذا المذهب الصارم لتلوّنه وتجعل فظاعته مشهديّةً يحسبها المراقب تهريجاً، لكنّها أخطر من ذلك بكثير...
زياد ماجد