Sunday, October 21, 2018

ستافان دي مستورا والأخلاق الدولية

أعلن السيد ستافان دي مستورا، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة الخاص الى سوريا، أنه سيتخلّى عن منصبه آخر شهر نوفمبر المقبل، بعد أن أمضى أكثر من أربع سنواتٍ فيه قضاها يجول بين العواصم ويعقد الاجتماعات ويُطلق التصريحات ويراكم كل سنة دخلاً وامتيازات دبلوماسية وتوظيفية، من دون أن يقترن اسمه بإنجاز واحد أو بموقف صارم واحد أو حتى بمبادرة رصينة واحدة من وحي القرارات الأممية التي صدرت خلال سنوات مهامه. 
أكثر من ذلك، يترك دي مستورا عمله بعد أن ساهم في تحويل المباحثات حول ما سُمّي سلاماً سورياً في جنيف بين النظام الأسدي ومعارضاته الى "تفاوض من أجل التفاوض"، على الطريقة الإسرائيلية الفلسطينية، اختفت من جدوله توصيات مؤتمر جنيف الأول (المنعقد برعاية سلفه كوفي أنان في 30 يونيو 2012)، وسُمح فيه للنظام باستبعاد كل بحث سياسي لصالح البحث الأمني التقني، بما مكّنه مع الوقت، مدعوماً بالتدخّل العسكري الروسي، من القضاء على "المسار الجنيفي" برمّته.

في تجاهل القانون الدولي

ولعلّ أسوأ ما وسم أداء دي مستورا في فترة عمله كان تجاهله خلال "وساطاته" لِعددٍ من قرارات مجلس الأمن الدولي، لا سيما القرار 2139 الصادر في 22 فبراير 2014 والداعي لإنهاء هجمات "جميع الأطراف" ضد المدنيّين ورفع الحصار عن مناطق في دمشق وحلب وحمص وإدلب ووقف قصف بعضها بالبراميل وإدخال المساعدات الإنسانية إليها. فالقرار هذا أُسقط من جولات التفاوض، واستبدله دي مستورا بتصريحات دعا فيها بعد العام 2015 الى إخراج المدنيّين من مناطق محاصرة، أو إخراج مقاتلين معارضين أو جهاديّين من مناطق أُخرى، مستسلماً بالتالي للمواقف الروسية المبرّرة خسائر المدنيّين في القصف بعدم خروجهم من المناطق المستهدَفة، والمحمّلة مجموعات من "المسلّحين" مسؤولية ضربها لمدن وبلدات (ومستشفيات) يتمركز بعضهم فيها. وفي الحالين، ناقض المبعوث الأممي القانون الدولي الإنساني، وفي مقدّمه اتفاقية جنيف الرابعة التي تنصّ على حماية المدنيّين من العمليات العسكرية، وليس تهجيرهم أو تقديم الذرائع للمعتدين عليهم بحجّة وجود مجموعات مسلّحة (حتى وإن كانت جهادية) في أحيائهم.

إضافة الى ذلك، لم تصدر عن دي مستورا على مدى سنوات مهامه مواقف أو مبادرات فعّالة تُظهر متابعته وفريق عمله لملفّ السجون والمُعتقلات السورية الذي عُرض أكثر من مرّة على مجلس الأمن، وصدرت بشأنه توصيات وتصريحات لممثّلي عدد من الدول الأعضاء، ونُشرت حوله تقارير مفصّلة من منظمات حقوق إنسان وهيئات حقوقية دولية، تُشير جميعها الى المذبحة الواقعة فيها وعشرات الآلاف من ضحاياها. فصمتُه في هذا الباب، أو على الأقل عدم إصراره على البحث فيه وتحويله الى قضية مركزية في "التفاوض" وفي الاتصالات التي يجريها، بدا تسليماً منه بوقوع واحدةٍ من كبريات الجرائم المُرتكبة والمستمِرّ ارتكابها، واعتبارها مسألة تقنية مثل سواها من مسائل البحث والتفاوض الممكن طرحها أو تأجيلها.


في أخلاق الموظّف الدولي

تسلّم دي مستورا وظيفته قبل تدخّل روسيا العسكري في سوريا بعام وتغييرها أكثر المعادلات الميدانية، وقبل وصول ترامب الى المكتب الأبيض في واشنطن وتبدّل الإدارة الأميركية، وقبل وقوع أهوال كثيرة سترافق سنوات "عمله" وتُضاف الى سياق الأهوال السوري. ولم يبدُ استمراره في منصبه في مواجهة كل هذه التحوّلات، في أيّ من مراحلها، إصراراً شجاعاً منه على العمل أو تمسّكاً بمبادرات والتزامات أو دفاعاً عن أمل بتحقيق اختراق دبلوماسي يلجم آلة القتل المنفلتة. بدا على الدوام رجلاً ملتصقاً بمنصب، متكيّفاً مع كل التبدّلات للبقاء فيه، ولوَ اقتضى الأمر تحوّله الى شاهد زور على ما يجري، كما حصل بعد اختطاف موسكو للمسار التفاوضي وتحويله من جنيف الى آستانة حيث انتهى فعلياً دوره كراعٍ للتفاوض ومواكبٍ له.

قبل آستانة التي أطاحت به من دون أن تدفعه الى الاستقالة احتجاجاً أو احتراماً لذاته ودوره، لم تُعرف لدي مستورا زيارة واحدة لمنطقة سورية خارج سيطرة النظام، كما يفعل الوسطاء في الصراعات عادة، ولا حتى لمناطق النظام نفسه، في ما عدا فندقه في دمشق وأماكن اجتماعاته مع "المسؤولين". ولم تطأ قدما الرجل مخيّمات لاجئين في الدول المجاورة لسوريا، ولم يُعرف عنه إلمامٌ بالشأن السوري أو اختصاص سياسي يُتيح له قراءةً لما يكتبه باحثون سوريون أو مختصّون حول شؤون البلد الذي يُريد حلّ الصراعات فيه. وما مبادراته لتشكيل هيئات "مجتمع مدني" وإدخال نساء سوريّات إليها لإشراكهنّ في صياغات نصوص وتفاوض سوى محاولات بدت على الدوام مصطنعة وبائسة للظهور بمظهر "التقدمي" و"الحديث" المعني بتوسيع المشاركة المجتمعية وسماع أصوات "مُختلفة"، والفارض على سياسيّين ذكوريّين ورجعيّين (هم فعلاً كذلك وأكثر) عناصر نسائية يختارها ومستشاروه تماشياً مع صورةٍ مطلوبة دولياً، ولو أنها بلا مضمون.

على أن سيرة دي مستورا السورية، في ما هي أبعد من شخصه ومهامه، تختصر سيرة أخلاقية دولية تحكم الكثير من علاقات عالم اليوم. فالرجل يُشبه نُظراءه في المنظمات الأممية ويُشبه الكثير من السياسيّين والديبلوماسيين الذين يتعامل معهم لحلّ الأزمات التي تسبّبوا في أغلب الأحوال بها، أو بتعقيداتها. عندهم نفس الغرور والادّعاء المبنيّين على إلمامٍ بلُغتين أو أكثر ومعرفةٍ بخصائص عمل مكتبي وإعداد تقارير واستخدام مصطلحات وأدبيات اجتماعات وتحضير موازنات وتوظيف مستشارين، بالترافق مع انعدام حشريّة ومحدودية ثقافة وغياب حسّ إنساني وعدم اكتراث بموجبات عدالة وقلة احترام للمعرفة بوصفها شرطاً من شروط الخوض في معترك التعامل مع مجتمعات وأنظمة وصراعات متعدّدة المستويات.

وإذا عطفنا على ما ذُكر زبائنيةً وطموحاً سياسياً وسعياً لربح مادي ولتوسيع نفوذ ضمن تنافس على مناصب ومواقع أرفع، وقفنا على محدِدات استمرار دي مستورا وأضرابه في مهامهم لِسنوات، ولَو جرى إفراغها من مضامينها ومن احتمالات نجاحاتها، وعرفنا أكثر لماذا لا يعني لهم الكثير سقوط آلاف القتلى تحت التعذيب في سجون عاصمة يزورونها وعشرات الآلاف الآخرين تحت الحصار أو البراميل المتفجّرة التي يُلقي بها من يجتمعون بهم ويتبادلون الابتسامات واللياقات معهم.

في أي حال، يغادر دي مستورا منصبه، بعد أن سبقه في ذلك الأخضر الابراهيمي وقبلهما الراحل كوفي أنان، وسيحلّ على الأرجح مكانه مبعوث آخر، بمواصفات مشابهة وضمن قواعد علاقات دولية لا شيء يوحي بتعديلها أو تحسينها لا في ما يخصّ سوريا، ولا في ما خصّ الكثير من نزاعات العالم الراهنة وتداعياتها. وهذا بذاته يُعين على فهم أسباب تراجع المنظومة الأممية، المحتاجة لإصلاحات تبدأ بإعادة تعريف دورها وأدوار منظّماتها وكبار العاملين فيها، وتنتهي في مجلس أمنها المعطّل بحقوق الفيتو، المستخدمة غالباً لحماية جرائم أو انتهاكات بعض أعضائه وحلفائهم.

زياد ماجد