استخدم المفكّر السوري صادق جلال العظم في أكثر من مقالة ومقابلة له
حول شؤون بلده الراهنة مصطلح «العلوية السياسية». وماثَل بين ما عدّه ظاهرة
«العلوية السياسية» السورية و «المارونية السياسية» اللبنانية، معتبراً أن كلّ
اتّفاق على حلّ في سورية ينبغي أن يبدأ بطيّ صفحة «العلوية السياسية» على نحو ما
حصل مع نظيرتها اللبنانية بعد «اتّفاق الطائف» العام 1989 ونهاية الحرب الأهلية.
وقد قابل استخدام العظم للمصطلح هذا وللمقارنة الناجمة عنه ومؤدّياتها جدلٌ حاد
بين مرحّبين ومستنكرين.
على أنّ البحث في المقارنة المعقودة يُظهر أنها غير دقيقة. ذلك أن
مصطلح «العلوية السياسية» في سياقه السوري لا يستقيم إن كان مُسنده الحالة
اللبنانية. وحتى لو سلّمنا بجدوى استخدامه وبحثنا عن قواسم مشتركة بين «طائفيّتين
سياسيّتين» في بلدين لوجدنا أن خصائصهما الأهم على مقدار عالٍ من التناقض
والتنابذ.
فما اصطُلح على تسميته «مارونيةً سياسية»، للدلالة على تقليدٍ مهيمن
أرسته مرجعيّات مارونية مدنيّة في الحياة السياسية في لبنان، تأسّس خلال الانتداب
الفرنسي قبل أن يأخذ مداه في عقود ثلاثة تلت الاستقلال الوطني عام 1943. وأتاحت
بـروزَه تحـوّلاتٌ اقتـصاديـة واجتماعية بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر
مطوّرة العلاقة بين جبل لبنـان وبيروت، بالترافق مع انتشار التعليم وتعاظم أثر
الإرساليّات الدينية ومؤسساتها. ونجم عن الأمر أو صاحَبه نشوءُ تجربة ليبرالية
لبنانية، بالمعنيين السياسي والاقتصادي، بلغت مداها بعد الاستقلال، وآزرها خطاب
ثقافي قوامه الدفاع عن فكرة الكيان وتبريرها إيديولوجياً. ونمت في كنف تلك الحقبة
أيضاً أحزابٌ وتيارات سياسية يمينية زاحمت (وأحياناً اعتمدت على) زعامات «تقليدية»
مارونية لعبت على مدى جـيلَيـن أو أكثـر أدواراً سياسيـة قيـادية في مناطق نفوذها في
الجبل والشمال.
ويمكن القول إن لبنان لم يعرف خلال حقبة تسيّد المارونية السياسية
أجهزةً أمنية أو استخبارية شديدة البأس والسلطة قبل منتصف الستينات من القرن
الماضي (بفعل تضخّم جهاز «المكتب الثاني» في الحقبة الشهابية التالية لأحداث 1958
ومضاعفاتها)، حين ظهرت تدريجاً ممارسات تضييق على اللاجئين الفلسطينيين
ومخيّماتهم، سرعان ما تخطّتها التطوّرات بعد 1969 و «اتفاق القاهرة» ثم دخول لبنان
في حربه الأهلية. فالهيمنة المارونية على مؤسّسات الدولة كانت عبر صلاحيّات رئيس
الجمهورية وعبر وظائف ومواقع مدنيّة، أجّج رفض المسّ بها مع الوقت والبحث في تعديل
قسمتها الاعتراضات الداخلية (السنّية بخاصة) والتوتّرات السياسية - الطائفية.
الأهمّ ربما، أن النظام اللبناني الذي احتضن تجربة «المارونية
السياسية»، أي النظام التوافقي، قام على أساس نزعتين: الأولى تسوويّة، هدفها إحقاق
توازنات داخلية بين جماعات يملك ممثّلوها سلطة ترابية وزعامة عائلية - طائفية
بمستطاعها بناء تحالفات تتخطّى قواعد كلّ منها على حدة. والثانية انكفائية، هدفها
فكّ ارتباط لبنان بمحيطه الجيو - سياسي عبر جعل التوافقية مشروطةً بالحياد تجاه
الخارج أو بنفي الالتحاق بسورية والعالم العربي مقابل نـــفي التعلّق بالغـرب
(فرنسا تحديداً).
وإن أضفنا الى كلّ ذلك أن الموارنة في لبنان لم يكونوا حتى أواخر
الستينات «أقلّية»، بالمعنى الديموغرافي للكلمة، وأنّ تاريخهم الحديث لا يُنشئ
لديهم مظلوميّة اجتماعيه سياسية، وأن أصولهم غير المدينية لم تعنِ أن انتقال قسم
كبير منهم الى المدن أو الى مراكز السلطة فيها رافقه انتقام أو ثأر منها، أمكننا
القول إن لا قواسم مشتركة أو خصائص يمكن أن تجمع تجربتي الحكم في لبنان (بين
الاستقلال والحرب الأهلية) وسورية (منذ انقلاب البعث العام 1963 ثم وصول آل الأسد
الى السلطة العام 1970).
ففي مقابل «مارونية سياسية» لبنانية مدنيّة متعدّدة الزعامات قامت
بنية حكم عسكري مخابراتي سوري استندت الى ضبّاط جلّهم من الطائفة العلوية. وفي
مقابل هامش حرّيات وتعدّد سياسي ومراكز قوى مختلفة في لبنان قامت منظومة استبداد
في سورية لا مجال فيها للسياسة ولا لمراكز القوى خارج الأجهزة الأمنية. وفي مقابل
الانتقال الى المدينة نتيجة التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، جرى قهر
لمدن أو احتلال لها بواسطة قمع وعنف وسيطرة على قطاع عام متضخّم. وفي مقابل
مشروعية شعبية نسبية تُتيحها انتخابات دورية (لا تخلو من شوائب) بُنيت «مشروعية»
على أسس قانون طوارئ و «قيادة دولة ومجتمع» وحلّ أحزاب وتظلّل بقضايا وصراعات خارجية.
وفي مقابل توق انكفائي ماروني الى داخل الحدود نشأت اندفاعة أسدية سورية لتخطّي الحدود
الوطنية واعتبار القومية مبرّراً توسّعياً يرى الكيانات العربية «أقطاراً» يسعى
الى التحكّم بما تيسّر منها.
وإن استكملنا النقاش، يبدو لنا أن «العصبية» الطائفية التي ساهمت في
تعاضد أكثرية علوية مع حكم الأسد في سورية، استندت في شكل خاص الى الاستقطاب في
الجيش والى النشاطات الدينية التعبوية والسرديات التاريخية العاطِفَة اضطهاداً
دينياً على اضطهاد اجتماعي... في حين أن «العصبية» إياها لم تكن حاضرة في الحالة
المارونية اللبنانية طيلة السنوات التي سبقت الحرب الأهلية. وهي إذ أصبحت «ضرورةً»
لتأمين التفاف حربي خلف قيادة سياسية – عسكرية موحّدة (منذ طرح بشير الجميّل شعار
توحيد البندقية)، أدّت الى انكفاء تدريجي للقيادة المارونية للبنان، وحوّلتها الى
إقطاعية سياسية - ميليشيوية تنافس إقطاعيات أخرى وتُعاديها، ممّا ألزمها وفق فلسفة
النظام التوافقي بتسويات ومقايضات كان «اتفاق الطائف» تعبيراً عنها. فجاء بمعنى من
معانيه ترجمةً لخسارة مارونية أنتجتها جملة تبدّلات داخلية وسياسية إقليمية ودولية
(ثم عمّقتها الهيمنة الاستخبارية السورية مستفيدةً من صراعات دموية بين الزعامات
المارونية نفسها).
لمجمل ما ذكرنا، ولأسباب أُخرى خاصة أيضاً ببنية النظام الأسدي
وبخطابه المدّعي علمنة واشتراكية (مقابل قرار ماروني ولبناني ابتغى منذ دستور 1926
الانتظام الطائفي السافر قاعدةً لعلاقات «وطنية» وشرّعه)، تبدو كل المقاربة أو
المقارنة بين الحالتين غير موفّقة. ولا جدوى أو مؤدّيات لها إن لم يكن المقصود
البحث في شكل النظام السياسي المطلوب لإدارة مرحلة انتقالية في سورية بعد سقوط
الاستبداد ومؤسّساته. وهذا يفترض ربّما مقداراً من الفلسفة التوافقية تنبذ
المكابرة التي لا ترى للطائفية أثراً، وتنبذ أيضاً المقاربة المضادة التي لا ترى
إلا في الطوائف كيانات مكتملة أو منطلقات اصطفاف سياسي حصرية. وهو ما يتطلّب الأخذ
بما لم يعتبر منه اللبنانيون لجهة مرونة النظام وقدرته على التكيّف الدوري مع
المتغيّرات وفتح المجالات للديناميات السياسية العابرة للطوائف للتمثّل في
المؤسسات. ولعلّ الصيغ اللامركزية إدارياً واقتصادياً، كما النظم الانتخابية
القائمة على التمثيل النسبي أو على تركيب التمثيل يمكنها لعب الأدوار الأكثر
أهمّية في هذا السياق.
يبقى أن مجانبة الصواب في مقاربة صادق جلال العظم لموضوع «العلوية
والمارونية السياسيّتين» لا تغيّر في شيء صحّة تقديره لأولوية طيّ صفحة البربرية
الطاغية في سورية منذ أكثر من أربعة عقود، ولا تؤثّر في صدقية انحيازه الشجاع
كمثقّفٍ الى الحرية والثورة التي أشاح مثّقفون كثر من أترابه أنظارهم عنها.
زياد ماجد