حملت حمص بعد درعا مشعل الثورة السورية، وتحوّلت طيلة
أعوام ثلاثة الى فضاء تبلورت فيها شهراً بعد شهر ملامح المشهد السوري بأجمل وأقبح
ما فيه. ويمكن الحديث عن أربع مراحل عبرتها حمص في "إلياذتها".
المرحلة الأولى استُهلّت بمظاهرات 25 آذار 2011 إنتصاراً
لأهالي حوران ومناداةً بالحرّية، وانتهت بالمجزرة التي ارتكبتها قوّات النظام في
18 نيسان 2011 في ساحة الساعة.
المرحلة الثانية ابتدأت في أيار 2011 واستمرّت حتى آذار
2012، وفيها شهدت حمص أحداثاً مأساوية وانقسامات طائفية، وترافق خلالها التظاهر مع
بروز المظاهر الأولى للعسكرة وتحوّل بابا عمرو الى "معقل" للثورة اجتاحه
النظام ودمّره بالكامل.
المرحلة الثالثة انطلقت في نيسان 2012 واستمرّت حتى أواخر
العام نفسه، وشهدت معارك عسكرية وخطوط تماس، ثم فصلاً للمدينة عن محيطها وبدءَ
حصار النظام لها.
أما المرحلة الرابعة، فكانت تلك التي استمرّت طيلة العام
2013، وأنتجت السابع من أيار 2014، وفيها تضييق للحصار ومجاعة وتراجع للتنسيق بين
مكّونات الثورة المسلّحة. وفيها أيضاً بروز للدور العسكري لحلفاء النظام
الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين.
بالعودة الى المرحلة الأولى، يمكن القول إنها كانت
المؤشّر الأبرز على عزم النظام سحق التحرّكات الشعبية السلميّة، خاصة إن هي سعت
الى احتلال ساحات عامة في المدن الكبرى والاعتصام فيها. وهذا ما شهدته حمص، وبعدها
بأربعة أيام الزبلطاني في دمشق، ثم حماه ودير الزور في آب، وقبلها جميعها درعا.
وقد كان لمجزرة ساحة الساعة التي رفع النظام جثامين ضحاياها بالجرّافات وشاحنات
القمامة وترك برك دمائهم لساعات للتخويف بها أن دفعت الأمور في المدينة الثالثة في
سوريا الى التصعيد الكبير والى بدء ظهور السلاح والحديث العلني عن ضرورة الكفاح
المسلّح ضد النظام.
أما في المرحلة الثانية، فقد شهدت حمص أكبر عدد من الاعتصامات
والتظاهرات، وشهدت بروز نجم عبد الباسط الساروت، حارس مرمى فريق الكرامة والمنشد
الشعبي، وشهدت أيضاً تحوّل حي بابا عمر الى قاعدة ثورية بمركز إعلامي استقطب
صحافيين أجانب وبمركز استشفائي عمل فيه أطبّاء متطوّعون، وبوحدات عسكرية فيها
منشقّون عن جيش النظام ومدنيّون انضمّوا إليهم. كما شهدت حمص في هذه المرحلة تصاعد
التوتّر الطائفي نتيجة اعتداءات مارسها شبيحة من الأحياء "الموالية" على
المتظاهرين، بالترافق مع انتشار كلام عنصري وتحريضي ضد قاطني حيّي البيّاضة وبابا
عمرو بسبب "الأصول البدوية" لكثرة منهم.
بالتوازي مع ذلك، عرفت مرحلة الأشهر العشرة المذكورة
إبداعات فنّية حمصية (نُشر بعضها على الفايسبوك) وأفلاماً قصيرة (برز منها فيلم
"وعر") وحراكاً مدنياً لم يهدأ، حماه مسلّحون اشتبكوا أحياناً مع
الشبيحة وجنود النظام. لكنّها عرفت أيضاً عمليات خطف وسرقة سيارات ونشوء مجموعات
إجرامية تستظّل بالثورة لأهداف لا تمتّ لها بصلة. وقد أُقفلت المرحلة هذه على
مجازر طائفية ضد أحياء البياضة والخالدية وكرم الزيتون ثم على تدمير جيش النظام
لحيّ بابا عمرو واحتلاله. وقُتل خلال اقتحام الحيّ صحافيون أجانب وسوريون، وقُتل
قبل ذلك بفترة وجيزة صحفي فرنسي لم تكن الراهبة الشهيرة آنييس، أحدى أبرز الناشطات
في بروباغاندا الأسد، بعيدة عن مسؤولية التسبّب بموته.
المرحلة الثالثة شهدت تحوّلات هي الأخطر في الوضع
الحمصي، إذ تفاقم الاحتقان المذهبي بعد المجازر ونشأت سوق بمسمّى "سوق
السنّة"، عُرضت فيها للبيع ممتلكات ومفروشات وأغراض نهبها الجيش الأسدي وشبّيحته
من بيوت اضطرّ أهلها "السنّة" للنزوح عنها أو هم قضوا نتيجة القصف على
أحيائها. وقد تراجعت خلال هذه المرحلة التظاهرات تدريجياً، لتتحوّل المدينة التي
سقط فيها عشرات الناشطين السلميين ممّن حاولوا توثيق أحداثها أو نقل المساعدات الى
أهلها (واسم السينمائي باسل شحادة يبرز هنا) الى ساحة معارك ضارية تقدّم فيها
النظام داخل خريطة المدينة وأطبق على بعض أحيائها، في حين سجّلت المعارضة المسلّحة
بأطيافها المختلفة تقدّماً عليه في ريفَيها الشمالي والجنوبي. وتعرّضت في الفترة
عينها بلدات سنّية فقيرة تقع بين محافظات حمص وحماه والساحل لمجازر بدا فيه
"التطهير الطائفي" في منطقة "حسّاسة" هدفاً أساسياً.
المرحلة الرابعة والأخيرة، عرفت متغيّراً مهمّاً في
معادلاتها، ارتبط بدخول حزب الله وبعض الميليشيات المذهبية العراقية على خط القتال
الى جانب النظام غربي المدينة وجنوبها، مدعومين بطائرات إيرانية بلا طيّار، بهدف
إحكام الحصار عليها وربط الساحل السوري بدمشق عبرها، وما يعنيه الأمر استراتيجياً
وطائفياً للنظام من ربط للعاصمة بالمنطقة التي يعدّها "قلعته" أو حاضنته
الشعبية.
وعرفت المرحلة تلك تفككاً في البنية الحربية للمعارضين
وتناثراً لمجموعاتهم داخل حمص وفي محيطها. وعرفت أيضاً تبدّلات في "هويّات"
بعضهم، ترجمها صعود لتيّارات سلفية في أوساطهم. وفُرضت عليهم، كما على من بقي في
حمص القديمة حيث حوصروا، حرب تجويع لم تكن أقلّ ضراوة من القصف بالطيران والدبابات
والصواريخ الذي حوّل المدينة الى ركام رهيب. ومع ذلك صمدوا حتى الاتفاق على رحيلهم،
وصمدت معهم مؤرّخة جديدة للمدينة، وئام بدرخان، إذ وثّقت نثراً وشعراً وتصويراً يوميّات
حمص وليلها الطويل.
على أن المشهد الحمصي السوري بمراحله المختلفة لا يكتمل
من دون الحديث عن مزيج الصمت والعجز الذي رافقه، والذي تتحمّل جامعة الدول العربية
ومجلس الأمن الدولي جزءاً أساسياً من المسؤولية عنه، وقد فشلت مهامهما ووساطاتهما
في المدينة (تماماً كما يتحمّلان جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا حلّ بسوريا بأكملها
نتيجة التردّد والتمنّع عن التدخّل الفاعل لوقف مجازر النظام الأسدي ولمنع وصول
الجهاديّين الأجانب، ممّن تحوّلوا الى محتلّين في الكثير من المناطق الحدودية).
يبقى أن الاتفاق الذي أفضى الى خروج من تبقّى من
المقاتلين وعائلاتهم من حمص القديمة في 7 أيار حدّد نهاية حقبة في الملحمة الحمصية
وفي الثورة السورية المستمرّة ومآسيها. حقبة تكثّفت فيها جميع الديناميات
الاجتماعية والسياسية والعسكرية، وجميع السلوكيات البربرية. وحقبة تستحقّ من
"المعارضة" أو من المسؤولين الرصينين فيها التفكّر والتقييم، كي تليها
حقبات عودةٍ الى العَديّة وانتصارٍ للحياة فيها.
زياد ماجد