لم يسبق أن واجه فلسطينيّو الشتات في تاريخهم الطويل
معاناةً كمثل مُعاناة مخيّم اليرموك في دمشق اليوم. ليس لأنهم لم يعرفوا فظاعاتٍ تشبه
ما يشهدُه، وهم اختبروا الكثير منها في لبنان، من تلّ الزعتر وصبرا وشاتيلا الى
البدّاوي فحروب المخيّمات ثم البارد، بل لأنها تجري وسط صمت مديد وشبهِ انعدامٍ
لمظاهر التضامن معهم رغم الصوَر المتوفّرة والأخبار المنقولة مباشرةً من داخل المخيّم،
أو ما بقي منه.
وإذا كانت وحشية النظام السوري ضدّهم غير مفاجئة، وهو
الذي اعتاد سفك دمائهم منذ منتصف السبعينات، فإن المفاجئ هو ردود الفعل الفلسطينية
من سُلطةٍ ومنظمة تحرير وفصائل تجاه مأساتهم. والمفاجئ أيضاً هو صمت ملايين الفلسطينيّين
في الضفة والقطاع والقدس، كما في أراضي العام 1948، عمّا يقع عليهم من ممارسات قتل
وتعذيب وتجويع لم يستخدمها "نظام" ضدّ تجمّعات مدنيّة في
"بلاده" في أيّ من حروب العالم أو نزاعاته منذ زمن بعيد.
والسؤال الذي يطرح نفسه تجاه الصمت الفلسطيني هذا أمام نكبة
اليرموك المستمرّة منذ عامين والمتصاعدة منذ ستّة أشهر: هل السبب تعبٌ وهمومٌ تشغل
أصحابها عن متابعة أهوال غيرهم، أم أن السياسة وحسابات الأطراف المختلفة هي
المسؤولة عن ترك أكبر مخيّم خارج الأراضي الفلسطينية يُذبح ويُباد؟
لا يبدو الجواب على السؤال المذكور قاطعاً، ولَو أن ثمّة
الكثير ممّا يمكن قوله حول ترهّل منظّمة التحرير وفشل السلطة ووهن معظم الفصائل،
كما حول المفاهيم الرّثّة التي ما زالت تتملّك عقول بعض الكتّاب الفلسطينيين وتُعميهم
عن مشاهدة معاناة السوريّين والفلسطينيّين السوريّين مُحلّةً محلّها أحاديث
المؤامرات وأقاويل المُمانعة وسائر الترّهات. وفي أي حال، لا شيء في السياسة يبرّر
التبلّد الإنساني أو العاطفي، أو على الأقل، الإحجام عن التعبير الواسع والعالي
الصوت عن التعاطف الإنساني مع الآلاف من النساء والرجال والأطفال "اليرموكيّين"
الذين يحاول النظام السوري إخضاعهم بسلاح الجوع، وقنص الذاهبين منهم بحثاً عن خبز
وحليب، وقتل العشرات تحت التعذيب في أقبية المخابرات، وإقفال المسالك أمام الأدوية
الذاهبة إليهم، ومنع المؤسّسات الإنسانية الدولية والمحليّة من مساعدتهم. فهذا
كلّه موثّق، وهو لا يمتّ للمكائد الإمبريالية وللمخطّطات "الرجعية
العربية" التي تؤرق نجوم الممانعة بصِلة...
مأساة مخيّم اليرموك تبدو إذاً متعدّدة المستويات. فهو
عرضة لهمجية نظام يُعاقبه على استضافته عشرات ألوف النازحين السوريّين لفترة،
وتضامن كثرٍ من أبنائه مع السوريّين في ثورتهم من أجل الحرّية في فترة ثانية، وتصدّيهم
البطولي لمحاولات اقتحامه في فترة ثالثة. وهو عرضة أيضاً لتقصير فادح من قبل المؤسسات
الدولية المسؤولة عن أوضاع اللاجئين. كلّ ذلك مضافاً الى الصمت المخزي الذي ذكرنا.
غير أن اليرموك، كما ضواحي دمشق وغوطتَيها وحمص (وحلب
ودرعا ودير الزور وغيرها من مدن سوريا وبلداتها)، ما زال صامداً. وصموده ليس بطولة
فقط ولا هو طلب انتحار. صمودُ مخيّم اليرموك هو فعل تشبّث بالحياة، وإصرار على
الاستمرار فيها ولَو بين أنياب الوحوش.
زياد ماجد