Friday, March 30, 2012

عن النكبة الفلسطينية بوصفها مساراً، وعن محاولات لجم الانحدار

هذا النص مكتوب في ديسمبر 2011، وقد نُشر منذ أيام في العدد 90 من مجلة الدراسات الفلسطينية. يتناول جزؤه الأول كتاب "نكبة 48"، في ما يتناول الجزء الثاني النكبة في إطاريها العربي والفلسطيني بوصفها مساراً حاول الفلسطينيون في أكثر من محطّة، لا سيّما في الانتفاضة الأولى عام 1987، لجمه. أما الجزء الثالث فيعرض للوضع الفلسطيني في السنوات الأخيرة ولمحاولة السلطة الوطنية خوض معركة الدولة في الأمم المتّحدة. مع الإشارة الى أن جهد السلطة في ما خصّ المعركة الأممية المذكورة  تراجع في الأشهر الثلاثة الأخيرة، بعد دخول منظمة اليونيسكو، تماماً كما تراجعت مبادراتها وحضورها الدبلوماسي

تفتح قراءة كتاب "نكبة 1948: أسبابها وسُبل علاجها" المجال أمام نقاش للنكبة الفلسطينية اليوم، بعد 64 عاماً على وقوعها. النكبة بوصفها مساراً أكثر منه حدثاً، على فداحة الحدث التأسيسي.
وكتاب "النكبة" يجمع أربع مُساهمات كُتبت حول المأساة الفلسطينية عامي 1948 و1949: مساهمة قسطنطين زريق "معنى النكبة"، ومساهمة جورج حنا "طريق الخلاص" ومساهمة موسى العلمي "عِبرة فلسطين"، وأخيراً مساهمة قدري حافظ طوقان "بعد النكبة".

الكتاب هو إذن أقرب الى الوثيقة التاريخية، التي تقدّم قراءات-شهادات لأربعة مثقّفين من مشارب مختلفة واكبوا حدثاً جللاً قلَب حياتهم الشخصية وحياة مجتمعاتهم رأساً على عقب وأسّس لاحتمالات كانوا – رغم سعيهم الإستشرافي – بعيدين عن إدراك تداعياتها وآثارها.

وتتعاطى القراءات-الشهادات مع الحدث على أساس استعراض خلفياته التاريخية السياسية والاقتصادية، ثم تشريح الواقع الذي حصلت في ظلّه للوصول الى تشخيص له، والى طرح أسئلة حول التحدّيات المقبلة التي يفرضها. والمنهج هذا مُعتمد ومُبرّر، وليس من العدل افتراض أن يذهب أصحابه في استنتاجاتهم في تلك اللحظة التراجيدية أبعد ممّا أتاحته معطياتهم وتطلّعاتهم.

أما اليوم، بعد مرور أكثر من ستّة عقود على نكبة العام 1948، وعلى الكتابات المباشرة التي تناولتها، صار من الممكن اعتبار النكبة صيرورة (وليس لحظة حدثيّة) استُهلّت قُبيل العام 1948 واستمرّت منذ ذلك الحين، رغم المحاولات التي جهدت لكبحها أو التصدّي لمآلاتها.

الكتاب

بعد تقديم من المؤرّخ وليد الخالدي يحدّد المحاور التي تخوض فيها المساهمات الأربع ويعرّف بأصحابها وبمسيرة كلٍّ منهم المهنية والسياسية، نقرأ النص الأول "معنى النكبة" لقسطنطين زريق. والنص موقّع في 5 آب/أغسطس 1948، وفيه اعتُمدت مفردة "النكبة" لأوّل مرّة بوصفها أكثر المفردات بلاغة وقدرة على اختزال معنى ما أصاب الفلسطينيين والعرب خلال أشهر العام 1948، وهو انهيار مادي وآخر معنوي على ما يقول زريق، يستوجب بعد فهم هوله وأثره في صفوفهم، استنتاج العِبر حوله والبحث في سبل التعامل مع مخاطره آنياً، ثم على المدى الطويل للوصول الى حل شامل لها.
وفي المقاربة الآنية، أو "المعالجة القريبة" كما يسمّيها الكاتب، تبرز أركان خمسة.
الركن الأول، تقوية الإحساس بالخطر وشحذ إرادة الكفاح، إن لدى المثقّفين أو المسؤولين أو المواطنين العاديين الذين لم يتنبّه كثرٌ منهم بعد الى ما يتهدّده ويتهدّد مستقبله نتيجة النكبة.
الركن الثاني، تعبئة الطاقات لخوض الحرب عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. وهذا يتطلّب تنسيق الجهود جميعها وتعبئة المجتمعات ودفع الجيوش نحو ميادين القتال، لإشعار العدو بحالة الحرب الشاملة التي يواجهها في المنطقة والتي كان بنفسه سبّاقاً الى اعتمادها.
الركن الثالث، تحقيق أكبر قسط من التوحيد بين الدول العربية في الاقتصاد والسياسة والدعاية والمجهود الحربي والضغط، لا بل الثورة، على كل من يعرقل ذلك أو يرفضه.
الركن الرابع، إشراك القوى الشعبية في النضال من خلال تسليحها وتدريبها – تماماً كما فعلت قيادة إسرائيل مع شعبها – كي يكون الجهاد شاملاً يحمي الأوطان ويعيد الاعتبار الى الناس الذي هُزموا في فلسطين خلال المعركة وأحياناً قبلها نتيجة قلة التنظيم وغياب القيادة الواعية والخوف.
والركن الخامس، القدرة على المساومة مع الدول الكبرى والتضحية ببعض المصالح في سبيل القضية الأهم: مواجهة الخطر الصهيوني. وهذا يتطلّب توازنات ووضوح رؤى كي لا تتحوّل المساومات الى تنازلات وخسائر من دون مقابل...
بعد هذه الأركان المندرجة ضمن المعالجة القريبة، يتحدّث قسطنطين زريق عن الحل الشامل. والحل بنظره يقوم في بناء كيان عربي "قومي متّحد تقدّمي" يعزّز المعرفة ويدرّب العقل العربي على العلوم الوضعية ويفصل الدين عن الدولة ويمضي في طريق التطور الآلي والتكنولوجي وينفتح على الحضارات الانسانية. ويعتبر أن الطريق للوصول الى هذا الهدف يمرّ عبر "انقلاب" على الأمور السائدة وتغيير في سلوك النخب القيادية سياسياً وثقافياً.
ويختم زريق بخلاصة تعيد تعريف "معنى النكبة" بوصفها محكّاً لمدى قدرة العرب على النهوض، لا سيما الفئات التقدمية في أوساطهم المُطالَبة برفع الركام الذي غطّاها للانطلاق نحو نهضة جديدة.

المساهمة الثانية في الكتاب، وعنوانها "طريق الخلاص"، نشرها جورج حنا في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1948، وفيها يحاول الإشارة الى المسؤولية الذاتية العربية عن الكارثة التي حلّت بفلسطين، معتبراً أن أسبابها المباشرة لجهة الارتجال في السياسات وفي العمليات العسكرية ليست ذات شأن حاسم. فالأهم هو الأسباب غير المباشرة التي أفضت الى واقع عربي بائس سمح بوقوع كارثة ككارثة فلسطين.
والسبب الأول من بينها هو الجهل، والحذر من حضارة الغرب وفهم الوطنية على أنها حماس وتعصب على نحو ناقض الوعي وإعمال العقل.
والسبب الثاني هو تغلغل الحس الديني في الحياة والتفكير واحتلاله مساحات واسعة واقترانه بالطائفية المشرذِمة للمجتمعات والموهنة لإراداتها السياسية، ودفعه الناس للاتكال على القدَر، عوض العمل وإعلاء مبادئ المساواة واحترام العلوم.
والسبب الثالث هو "عدم الاستقرار الداخلي في الدول العربية، واستهتار الحكومات والشعوب بالأنظمة والمُثل العليا"، ومقاومة القوى الرجعية لكل محاولة التجديد وبناء المفاهيم الديمقراطية والعدالة.
والسبب الرابع هو انعدام الثقة بين العرب وبينهم وبين حكّامهم نتيجة فشل الإدارة واستسهال الوعود والخطابات دون الإنجازات.
والسبب الخامس هو تباعد الشعوب العربية وانعدام التعاون بين الحكومات على معظم المستويات. وهذا يُضعف الروابط المشتركة بين العرب ويفرّقهم الى جماعات وأقطار متنافرة.
أما السبب السادس، والذي يدعو حنا الى اعتباره فائق الأهمية، فهو رجعية المجتمعات العربية وتهميشها المرأة وإبعادها عن حقوقها المواطنية والإنسانية، مما يعني أن مشاركة نصف العرب معطّلة وأن كل جهد ومحاولة تحرّر تبقى متعذّرة ما لم يتبدّل هذا الواقع.
وبناء على هذه الأسباب مجتمعة، لا سبيل للخلاص بنظره إلاّ من خلال الإصلاح السياسي الجذري في دنيا العرب المفضي حكماً للشعب من الشعب، أي ديمقراطيةً، والمبني انطلاقاً من العمل الحزبي ومن الإنتاج الفكري ومن التثقيف المدني، ومن فهم فكرة الدولة على أساس أنها خدمة للناس – المواطنين وليس مطيّة للمسؤولين يستخدمونها ضد من ينتقد أداءهم أو مواقفهم.

المساهمة الثالثة في الكتاب، كتبها موسى العلمي بعنوان "عبرة فلسطين"، ونُشرت في العام 1949، أي بعد أشهر من نصّي زريق وحنا. وهي سمحت تقييماً لمراحل الحرب ولتطوّر أحوالها وتراكم الخسائر فيها. لكنها أتت أقل تشخيصاً لمكامن الخلل، ذاكرة "عدم الوحدة" بين العرب، ومحدودية الوعي القومي لدى الشعب. واعتبرت أن "الخطر اليهودي" على فداحته ومخطّطاته التوسعية يمكن الشفاء منه من خلال الوحدة العربية أو إن تعذّرت من خلال وحدة "الهلال الخصيب".
ووضع العلمي عدداً من العناوين العامة الواجب اعتمادها برنامجاً إصلاحياً، تبدأ بالتجديد في الحكم، ثم بإعلاء حرية الشعب والمساواة بين أبنائه وبناته وحقوقهم بالعمل والتأمينات الاجتماعية وواجباتهم المواطنية، وبعد ذلك بالتربية القومية والتنمية الاقتصادية، وصولاً الى المقاومة لاستعادة الأرض.

أما المساهمة الرابعة والأخيرة، فنص قدري حافظ طوقان "بعد النكبة"، الموقّع في يناير/ كانون الثاني عام 1950. والنص يُقيم قراءة للواقع العربي ومراجعة لثنائية ما يسمّيه الغرور والشعور بالنقص المتحكّمة بالعرب، ويعمد بدوره الى القول إن الهزيمة/النكبة عام 1948 توجب معالجة شاملة يشارك فيها المفكّرون والمسؤولون ويكون محورها التربية والمدرسة وتدريب العقل وإعادة النظر بدور المعلّمين والمناهج التعليمية، وتنمية الحسّ العلمي والعلاقة بالأرقام.

النكبة وتداعياتها

لم يكن لزريق والعلمي وطوقان وحنّا أن يقدّروا حين كتبوا مداخلاتهم، على تفاوت مستوياتها قبل 64 عاماً أن أثر النكبة سيكون أبعد من حدود ضياع الأرض أو من التأثير النفسي في العرب وإشعارهم بالعجز والمهانة. فرغم أنهم ربطوا الهزيمة بالواقع العربي العام – في ما يتخطى القدرات العسكرية – إلا أنهم كانوا أقرب الى اعتبار رصّ الصفوف والسير في التعليم والإصلاحات السياسية والاقتصادية سبيلاً لا بدّ أن يُفضي تعديلاً في موازين القوى واستعادة للحقوق السليبة (وبخاصة العلمي وطوقان).

على أن ما سيجري لاحقاً، ولغاية أواخر الستينات، سيُظهر أن النكبة وادّعاء التصدّي لها، سيتحوّلان حاضنةً نظرية لسلسلة من الانقلابات السياسية والعسكرية في معظم أرجاء العالم العربي، لا سيّما في مشرقه. كما أن النكبة إياها ستصبح "ملاذاً" لكل من يريد نسب فشله أو تأجيل الإصلاحات التي نادى بجوانب منها الكتّاب الأوائل، بحجة التصدي لها!


هكذا، توالت الانقلابات في سوريا بعد العام 1949 ثم وصل البعث الى السلطة واحتكرها منذ العام 1963. وهكذا أيضاً أطاح الضباط الأحرار حكم الملكية في مصر عام 1952، وتناسلت الانقلابات في العراق إبتداءً من العام 1958، لترسو الأمور على حكم صدام حسين والبعث. وهكذا أيضاً وأيضاً، سطا معمّر القذافي على السلطة في ليبيا عام 1969، فيما كان وهج الانقلابات والثورات والمدّ الناصري والخطاب القومي العربي ذات الصلة بفلسطين يحرّك الأوضاع السودانية واليمنية، ثم يصطدم بالملكيات النفطية الخليجية أو المحافِظة (في الأردن والمغرب).

لا يعني ما تقدّم أن النكبة الفلسطينية كانت المحرّك الفعلي للانقلابات. فثمة تحوّلات اجتماعية وتبدّلات في النخب الطبقية وفي علاقة الأرياف بالمدن وفي العصبيات الجهوية أو الطائفية كانت آخذة في التفاعل في المجتمعات العربية بأكثرها. كما كانت الحرب الباردة ومُعسكراها، وموجات صعود "العسكر" في معظم أرجاء العالم الثالث بوصفهم حاملي مشاريع "تحديثية" وأصحاب "مشروعيّات تحريرية" تفعل فعلها في تعزيز الاتجاهات الانقلابية ونزعات بناء نماذج الحزب الواحد. لكن النكبة الفلسطينية أوجدت حججاً يلجأ إليها كل من قرّر "الارتقاء" السياسي، وأوجدت كذلك مخزوناً من "الماديات والرمزيات" التي يمكن لأي حكم الغرف منه لحشد التأييد، أو توجيه الأنظار من "داخل" الى "خارج"، أو توجيه الاتهامات واستدعاء كلام المؤامرات والتخوين، وغيرها من عدّة التأسيس للاستبداد. وهذا دلالة على قدرة "النكبة الفلسطينية" على التحوّل صيرورات (بالجملة) في المنطقة، وقدرتها كذلك - لعمق تأثيرها في الوعي (واللاوعي) العربي - على تأمين الذخيرة لجميع التيارات التي تنادي بها أو بالقضايا المُتّصلة بها.

في مراحل الصراع

أسّس توظيف النكبة إذن في صراع المشروعيات الداخلية العربية، معطوفاً على ضعف "منظمة التحرير الفلسطينية" الحديثة الولادة وعجزها عن بلورة هوية سياسية للفلسطينيين حتى أواخر الستينات وصعود حركة فتح وياسر عرفات، الى اتّساع رقعة المناوشات العربية-العربية والى نشوء نزاعات داخلية شديدة التعقيد تترافق مع حروب محدودة لأنظمة عربية وجيوش على شاكلتها مع الدولة العبرية.
ولا حاجة لتفصيل المسار الموصل الى هزيمة أو كارثة ال67 وما يمكن اعتباره تجديداً للنكبة وتعميقاً لضررها وتوسيعاً لرقعتها جغرافياً. ولا حاجة كذلك للعودة الى تفاصيل الحرب الأخيرة بين العرب دولاً وإسرائيل عام 1973 وخروج مصر من بعدها من الصراع في شقّيه العسكري والسياسي. فالحدثان حلقتان من صيرورة النكبة وتبدّل أطوارها. لكن ما يمكن تفصيله هو انتهاء حقبة من الصراع مع إسرائيل على أساس أنه صراع دُول (State actors). ذلك أن ما سيلي السبعينات سيحوّل الصراع الى صراع بين دولة ومنظمات دون دولتية (أو غير دولتية Non State actors) وسيجلب لاعبين جدداً من خارج الحلقة القومية العربية التي رأى فيها الكتّاب الأوائل، الإطار "الطبيعي" للقضية الفلسطينية.

بهذا، إن كان الصراع بدأ على الأرض بين سكّانها الأصليين والمهاجرين إليها في ظل أمبراطورية عثمانية متهاوية ثم انتداب بريطاني أقرن حضوره بوعد تقسيمي لها بين "عرب" ويهود، فهو تحوّل بعد قرار التقسيم الأممي عام 1947 الى حرب بين دول عربية مستقلة وكيان صهيوني "مستفيد" من مآسي الحرب العالمية الثانية ساعٍ لتوظيف التعاطف مع ضحاياها لبناء دولته "المستقلة" في فلسطين، قبل أن يصير بعد العام 1974 صراعاً شبه محصور بين منظمة التحرير الفلسطينية والدولة الإسرائيلية.
وفي حصريّته هذه، أو شِبهها، ما سيُعيد التركيز على هويّة فلسطينية طمستها لفترة مفردات الصراع محوّلة إياها الى مقولة تبريرية من ناحية، وحاول الاستيطان الأسرائيلي للأرض القضاء المبرم عليها من خلال طمر الأسماء والمعالم وكل ما يشي الى هوية الأرض المحتلة وناسها من ناحية ثانية.
وبالتالي، سيكون انتزاع منظمة التحرير لما أسمته قرارها الوطني المستقل نجاةً من أسر الأنظمة العربية وبداية تصدّ فلسطيني سياسي للنكبة ولو من خارج جغرافيتها الأولى، أي عبر الحدود.
على أن هذا التصدّي، لن يغيّر في مسار النكبة الذي ذكرناه. فمنظمة التحرير ستدخل بدورها في صراعات ليس مع "العدوّ" فحسب، بل مع "الأخوة" في القومية أيضاً، لا بل مع أعتى عتاة هذه القومية العربية التي عهد إليها أكثر كتّاب النكبة مهمّة استنهاض الأمة. وسيستمر الفصل هذا حتى ما بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، ودخولها عاصمته بيروت وخروج المنظمة الفلسطينية بقادتها ومعظم مقاتليها منها.

إيقاف المسار "المنكوب"

ذكرت في المقدمة رأياً في صيرورة النكبة ومحاولات كبح مسارها جدّياً. ولعل العام 1987 يشكّل في هذا الإطار نجاحاً نسبياً في المهمة، إذ جرى فيه انتزاع أوّل إقرار دولي سياسي، ومن خارج القرارات الأممية المتراكمة والمنسية، بوجود الشعب الفلسطيني بوصفه شعباً كامل القوام الوطني، حيّاً فوق أرض سليبة، ينتفض رفضاً للاحتلال والاستيطان ومصادرة الأراضي والمياه، ويمتلك إدارة تمثّله هي نفسها التي رفضت إسرائيل والولايات المتّحدة ومعظم دول الغرب على مدى عقدين الاعتراف بها وبمشروعيّتها التمثيلية.
بهذا المعنى، شكّلت انتفاضة الشعب الفلسطيني الهائلة في الداخل، بعد أعوام طويلة من قتاله من الخارج، رافداً حاسماً لعودة فلسطين خريطةً (جزئية طبعاً)، ولكن "ترابية" وليس فقط سياسية، الى عالم العلاقات الدولية. وصارت منظمة فلسطينية هي التي تمثّل الشعب الفلسطيني بغير الحاجة الى حكومات عربية وأنظمة، وباعتراف دولي سياسي مباشر أو غير مباشر.


وقد بُنيت على الأمر مفاعيل لاحقة، ولو ملتبسة ومرتبطة بتوازنات قوى، أدّت الى عودة فلسطينية كيانية الى جزء من فلسطين عام 1994. والعودة كانت الحركة الأولى جغرافياً بالاتجاه المعاكس للنفي، ولم يعد ممكناً من بعدها، وبمعزل عمّا سينتج عنها، الحديث عن فلسطين على نحو ما كان يجري الأمر قبل العام 1987. صارت فلسطين واقعاً، وسيحاول الإسرائيليون من جديد بعث نكبته المجمّدة واستئناف مسارها.

بين المقاومة والتفاوض، من الداخل

لم تساعد الظروف الإقليمية ولا أحوال "الأمة العربية" وسياسات دولها الفلسطينيين في تثبيت أقدامهم سياسياً وتكوين نواة صلبة تقرّر الأولويات الاستراتيجية والتكتيكات الضرورية في مرحلة الصراع الجديد الذي دخلوه بعد اتفاق أوسلو وقيام السلطة في جزء من الضفة الغربية وغزة. كما لم تساعدهم إلتباسات الاتفاق وأخطاء السلطة وخصومها على السواء. على العكس، ظهر التجاذب العربي والتنافس محفّزاً على التباعد والتنابذ الفلسطينيين. كما جاء دخول إيران كطرف إقليمي قوي على خط القضية الفلسطينية ليعقّد الأمور. وزادت في الطين بلة، الانقسامات الفلسطينية والفساد والجنوح نحو تطييف أو تديين القضية التحرّرية. وفي المقابل، وفَد الى إسرائيل عدد كبير من المهاجرين، وسعت الحكومات المتعاقبة الى تسريع سياسة التهام الأراضي وتوسيع الاستيطان والمماطلة تفاوضاً لخنق الكيان الفلسطيني الوليد، ومحاصرته، وخلق أمر واقع يصعّب كل مقوّمات استقلاله الجدي على كامل الأراضي المحتلة عام 1967. كما تبدّل المجتمع الاسرائيلي نفسه وانزاح مزاجه السياسي وديمغرافيته الانتخابية نحو اليمينين القومي والديني. ثم انفجرت التناقضات الفلسطينية على دفعات ابتداء من الانتفاضة الثانية عام 2000 وعسكرتها غير المدروسة، ورحيل عرفات، وصولاً الى فوز حماس في الانتخابات وانقطاع غزة عن الضفة وتهتّك عرى المجتمع السياسي الفلسطيني الذي بنته بشكل أو بآخر إنتفاضة ال1987 وكيانية ال1994. وصار ممكن القول إن مسار النكبة استأنف نفسه.

مع هذا الاستئناف، بدا الشأن الفلسطيني مستقطَباً على أساس مقولتين تتنافسان تبسيطيةً تجاه المُصاب الكبير الجديد: "المقاومة المسلّحة لإسرائيل" و"التمسّك بالتفاوض معها". وتبسيطيّتهما لا تنبعث من محدودية أفقهما السياسي فقط ونقض واحدتهما للثانية، بل كذلك من كونهما هذه المرة يتمّان من داخل الأرض المستعاد بعضها والضائع من جديد بعضها الآخر.
وأي مراجعة لعواقب المقولتين حين تتحوّلان إطلاقيّتين لا مجال لتوقيت وأساليب تحدّد المفاضلة بينهما، تفيد أنه بعد الانتفاضة الثانية عام 2000، أدّت المقولة الأولى الى تحويل المشاركة الشعبية الواسعة في المظاهرات والمصادمات بالحجارة والاعتصامات الى مواجهات مسلحة وعمليات غالباً غير محسوبة لم تأت بنتائج ميدانية باهرة رغم التضحيات: فالضفة اليوم محتلّة معظم أراضيها، مقطّعة الأوصال بالحواجز العسكرية والمستوطنات، ومخنوقة بجدار الفصل العنصري. أما غزّة، فتحت الحصار والضغط والقهر اليومي.
والمقولة الثانية أدّت، في ظل ضعف أداء السلطة الوطنية التفاوضي، وفي ظل مزايدات النظامين الإيراني والسوري وحركة حماس، وفي ظل موازين القوى المريعة، الى التفكّك والتقاتل في وقت كانت فيه إسرائيل تواصل تعديل المعطيات الميدانية بشكل يجعل كل محاولات الوصول الى حلول في المستقبل محكومة بواقع جغرافي ديموغرافي يصعّب العودة حتى الى ما كان الفلسطينيون عليه في أيلول من العام 2000.

هل من مخرج إذن من هكذا ثنائية لم تحصّل منذ أكثر من عقد أي مكسب فعلي؟ وهل من وسيلة للعودة الى منجزات العام 1987 وما بُني عليها لغاية منتصف التسعينات؟
يبدو الجواب شديد الصعوبة، ولم يجد الفلسطينيون – عبر منظمة التحرير – سوى محاولة السير في إعلان الدولة المستقلة سبيلاً لمواجهة جانب من صعوبته، مراهنين أن يكون خوض المعارك الديبلوماسية لانتزاع الاعتراف بالدولة في الأمم المتحدة والمنظمّات الدولية محفّزاً على التوحّد بحدّ مقبول. وزاد "الربيع العربي" من أملهم لِما خلقه دولياً من مناخات ترحيب (في المجتمعات أكثر منه في الحكومات) بانتفاضات جيل جديد من أبناء مصر وتونس واليمن والبحرين وليبيا وسوريا ضد الاستبداد والقمع، وتحرّراً من الخوف والابتزاز، وتحريراً للفرد العربي من سطوة أنظمة تلحّف بعض من قادتها "قضية النكبة" ليغطّوا بها تخريبهم لمجتمعاتهم وناسها.

إعلان الدولة: طور جديد من الصراع

على هذا الأساس إذن، وفي التوقيت الإستثنائيّ الأهمية المذكور، يمكن القول إن الخيار الفلسطيني "الرسمي" قرّر نقل الأمر الى الأمم المتحدة اعتراضاً على الرعاية الأميركية الفاشلة للمفاوضات واستسلام واشنطن في معظم الأحيان للشروط الإسرائيلية، وإقراراً كذلك بانعدام القدرة على الوصول مع الطاقم الاسرائيلي المتطرّف الموجود الى أي تسوية.


ويمكن للمعركة الديبلوماسية الدائرة منذ التوجه الى المؤسسة الأممية، أن تحرز عدداً من المكاسب:
- الأول: إنتقال صيغة التعاطي مع فلسطين ال67 من صيغة "أراضٍ محتلة تديرها سُلطة" يجري التفاوض حول مستقبلها الى صيغة "دولة تحت الاحتلال". وهذا قانونياً تحوّل كبير إذ يُنهي كل مقولة تروّج لمبدأ "الأراضي المتنازع عليها"، كما يُنهي كل التأويلات للقرار الأممي 242، ويقرّ بكون غزة والضفة الغربية بأكملها كما القدس الشرقية دولة واحدة محتلّة. وهذا يعني حُكماً أن المستوطنات جميعها غير شرعية ومرتبطة بانتهاك سيادة الدولة الخاضعة للاحتلال، تماماً كما هي حال الأجزاء المقامة من جدار الفصل العنصري فوق أراضي الضفة.
- الثاني: إنتزاع حق دولة فلسطين بالانتساب تلقائياً الى جميع المعاهدات الدولية، والى جميع منظمات الأمم المتّحدة أو تلك المنبثقة منها، وأهمّها محكمة الجنايات الدولية ومحكمة العدل الدولية، واليونيسكو. فالمحكمتان ستتيحان رفع الدعاوى الدورية ضد الاحتلال وجرائمه وانتهاكاته ومسؤوليه، مما سيجعل المسارات القانونية تفرض نفسها على الاسرائيليين، وقد تمنع كثراً من ضبّاط الجيش والأمن وحتى القادة السياسيين من السفر مستقبلاً خوفاً من الملاحقات الممكنة. واليونيسكو، ستسمح لفلسطين بالتقدّم مباشرة بطلب تسجيل عدد من المواقع (في بيت لحم والخليل والقدس وغيرها من المناطق) كمواقع مصنّفة ضمن الآثارات العالمية والتراث الانساني. وهذا في ذاته حماية لها من التعدّي الإسرائيلي عليها.
- الثالث: إخراج الصراع الفلسطيني الاسرائيلي من سياقه التفاوضي الراهن، وفتحه على مسارات العلاقات الدولية ودينامياتها وعلى تدخلات الأمم المتّحدة والمؤسسات الدولية المعنية، وربما على أدوار أكبر لبعض الأوروبيين ولعدد من الدول الصاعدة في العالم (البرازيل والهند وجنوب أفريقيا وغيرها). وإن عطفنا على الأمر احتمال افتتاح عشرات السفارات للدول المعترفة بفلسطين، أو محاولة ذلك، في القدس الشرقية، واصطدام المعنيين بإدارة الاحتلال، ومن ثم استعاضتهم المؤقتة عن الأمر ببعثات أو بقنصليات في مدن في الضفة وغزّة، فهذا يعني أننا أمام مواجهات ديبلوماسية بين عشرات دول العالم وإسرائيل حول الموضوع وتبعاته، ويعني أيضاً تواجد مئات الموظفين وآلاف المرتبطين بهم وظيفياً وعائلياً في أراضي "الدولة الخاضعة للاحتلال"، مع ما سيوجده الأمر من اتفاقيات تعاون اقتصادي وثقافي، ومن "إشتباكات" مع الاسرائيليين ستزيد من الأزمات بينهم وبين العواصم المعنية.
- والرابع: تكريس الاعتراف بالهوية الفلسطينية الذي تمّ سياسياً عام 1987، وتحويله الى اعتراف قانوني دولي لا لبس فيه.

هل هذا يعني أن إعلان الدولة عند تحقّقه قد يوقف مسار النكبة؟ ليس على المدى القصير. لكن بوسعه على الأقل توليد ديناميات سياسية تخلق وقائع جديدة وطنياً ودولياً. وهذا يتطلّب لتحقّقه مصالحات ومبادرات فلسطينية - فلسطينية لإيجاد قواعد مشتركة للعمل بين الفصائل والهيئات والجمعيات، وتعاوناً مع المجتمع الفلسطيني، ويتطلّب تجديداً في النخب السياسية والثقافية الفلسطينية، ويتطلّب كذلك مواكبة من المجتمعات المدنية العربية التي تعيد رفع هاماتها بعد طول انحناء تحت ضغط الاستبداد، ويتطلّب أيضاً حملات ديبلوماسية وإعلامية وشعبية، تتحدّى الاحتلال وإرادته، كما حواجزه وجداره العنصري.

التحدّي إذن يبدو مرتبطاً بسبل استعادة زخم النضال التحرّري، ميدانياً على طريقة الانتفاضة الأولى، وسياسياً على أساس إعلان الدولة وما يُفترض أن يرافقه من جهود على مختلف المستويات. ففي ذلك، وحده، ما سيؤدّي الى انبعاث فلسطيني جديد...
زياد ماجد 

http://www.palestine-studies.org/files/pdf/mdf/11297.pdf