تشكّل
وثيقة "الأخوان المسلمين" السوريين حول سوريا المستقبل، المنشورة قبل
أيام، تطوّراً هاماً في أدبيّات الجماعة وفي تفكيرها السياسي. ولعلّ استعراض أبرز
ما تضمّنته لجهة تحديد خصائص الدولة المنشودة، وحقوق المواطنة فيها، يُفيد لتظهير هذا
التطوّر ونقاش أمور ترتبط به...
يتعهّد
الأخوان في نصّهم بأن تكون سوريا المستقبل: "دولة مدنيّة حديثة، تقوم على
دستور مدنيّ يحمي الحقوقَ الأساسية للأفراد والجماعات من أيّ تعسّفٍ أو تجاوز،
ويضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع". ويعرّفون الدولة المدنية بأنها
"دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنسانيّ
الحديث، ذات نظام حكم جمهوريّ نيابيّ، يختار فيها الشعب من يمثّله ومَن يحكمه عبر
صناديق الاقتراع، في انتخاباتٍ حرة وشفافة".
ويتابعون في تعريفهم أنها
"دولة
مواطَنة يتساوى فيها المواطنون جميعاً على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم
واتجاهاتهم، ويحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استنادًا إلى قاعدتَي
الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء في الكرامة الإنسانية
والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة". وتلتزم الدولة بحسبِهم
"حقوق الإنسان من الكرامة والمساواة، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد
والعبادة، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص، والعدالة
الاجتماعية... ويتشاركُ جميع أبنائها على قدم المساواة في بنائها وحمايتها،
والتمتّع بثروتها وخيراتها، ويلتزمون باحترام حقوق سائر مكوناتها العرقية والدينية
والمذهبية، وخصوصية هذه المكوّنات، بكل أبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية".
أكثر
من ذلك، يتعهّد الأخوان بأن تكون الدولة المُزمع بناؤها "نابذة للإرهاب وتحاربُه،
وتحترمُ العهودَ والمواثيقَ والمعاهدات والاتفاقيات الدولية... وتقيمُ أفضلَ
العلاقات الندّية مع أشقائها، وفي مقدمتهم الجارة لبنان". والأهم داخلياً في
ظلّ الجرائم والمجازر المرتكبة راهناً، كما تلك التي ارتُكبت في العقود الماضية، تتعهّد
الوثيقة بألا يكون في المقبل من الأيام "مجال لثأر أو انتقام"، وأن يكون
لمن "تلوّثت أيديهم بدماء الشعب، من أيّ فئة كانوا، الحق في الحصولَ على
محاكمات عادلة".
لغة
الوثيقة إذن واضحة، كما المصطلحات. "الدولة المدنية" هي نفسها تلك التي
تعرّفها القوى العلمانية يميناً ويساراً، والحكي في حقوق الإنسان وفي احترام
الأفراد والجماعات وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية ومبدأ تداول السلطة والاحتكام
الى صناديق الاقتراع كما الى القانون والاتفاقات الدولية هو نفسه ما تعتمده برامج الإصلاح
العربية وما تتحدّث به النخب الليبرالية منذ سنوات طويلة وتناقشه في المؤتمرات والندوات. وأن يأتي اليوم من جهة إسلامية أخوانية، في لحظة صعود غير مسبوق للجماعة في المغرب
وتونس ومصر، وفي ظل دعم تركي وقطري، ففي الأمر أهميّة وجدّية لا ينبغي التقليل
منهما. ذلك أن ما ورد في الوثيقة صار برنامجاً مكتوباً لن يسهلَ التراجع عنه، وهو
يشير الى فهم ديناميّ للمجتمع السوري تطلّب قراءةً جديدة منفتحة تُقرّ بالاختلافات
والتنوّع وبتوازنات القوى التي لن تسمح لأي طرف، وتحديداً إذا كان ذا هوية سياسية
دينية، باحتكار السلطة مستقبلاً. كما أنه يأتي من تنظيم سبق واعتمد في الثمانينات
خطاباً مختلفاً ودخل في صراع دموي وطائفي مع النظام انتهى بمجازر نفّذها الأخير في
حماة وتدمر، وبقيت آثارها قائمة لعقود.
لقائل
أن يقول إن الكلام شيء، والتطبيق شيء آخر، أو إن انتقاء المصطلحات كمُعارضة غيره
كسُلطة محتملة. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أن التدقيق في الخطاب ضروري قبل
التطبيق، وأن شأن الأخير يبقى اليوم افتراضياً، ولا يمكن تحديد معالمه دون البحث
في السُبل التي سيشق فيها طريقه الى السلطة، أو بالأحرى الى المشاركة فيها. ولا
يمكن كذلك فهم خصائصه، من دون وضوح الشكل النهائي الذي سيتّخذه مسار سقوط
الاستبداد.
ويمكن
أن نضيف الى ما سبق أن الواقع الوحيد الذي يعرفه السوريون، ومنذ 42 عاماً، هو واقع
القمع والقتل والنفي والفساد. وهو واقع وحشي "يتجمّل" في خطاب بعثي
"طليعي" وتقدّمي، ليست مفرداته ولغته – على نِفاقها - أكثر
"مدنية" من خطاب الأخوان المسلمين في وثيقتهم الأخيرة. هذا علماً أن
الدستور السوري الجديد التي استفتى النظام مريديه عليه قبل أسابيع ينصّ على
الانتماء الإسلامي للرئيس، في حين أن الوثيقة "الإسلامية" لا تفعل.
يجوز
لنا، في كل حال، مساءلة الأخوانيين حول موضوعة الدين والسياسة في أصلها وفصلها،
وحول فهمهم للحريات الفردية وللحقّ في الإبداع ولحرية التعبير، كما حول شؤون
المرأة وشجونها في النصوص الدينية والوضعيّة المعتمدة في بلادنا. ويمكن كذلك
مطالبتهم بالمزيد من الوضوح تجاه تجاربهم المختلفة، في الثمانينات وما تلاها، ثم
في السنوات المرتبكة الأخيرة وما تخلّلها من تحالفات ومن تبدّلات. ويمكن لعلمانيين
أن يظلّوا على حذرهم من كل جماعة تعتمد الدين هويّة سياسية أو تتّخذه مظلّة، ولو
عريضة، لحراكها السياسي، وهذا ضروري. تماماً كما هو ضروري العمل لإيجاد توازنات قوى
في المجتمع لا تتيح لطرف الاستئثار أو حتى محاولات الفَرض. ومشاهد تونس الأسبوع
الماضي لم تكن بعيدة عن ذلك. لكنّ التشكيك المجّانيّ، ورفض قراءة النصوص ومحاورة
المعنيّين بها والاعتراف بمشروعيّتهم التمثيلية، أو استمرار التذرّع بمسمّيات وخلط
أمور لرفض التعامل مع المتغيّرات، أمور تنقصها الحكمة، وتنقصها قبل ذلك وبعده،
النزاهة والاستقامة.
وثيقة
الأخوان المسلمين السوريين، في هذا التوقيت بالذات، مُطمئنة بِلغتها ومضمونها. وحكيُها عن العدالة، بما فيها تلك المطلوبة بديلاً عن الثأر والانتقام، مفيد جداً. على أن المُطمئِن أكثر والمفيد أكثر هو أن يحذو باقي قوى المعارضة السورية، لا
سيما القوى العلمانية، حذوَ الأخوان ويضعوا وثائق جديدة تطرح رؤيتهم لسوريا
المستقبل؛ تلك التي كلّف ويكلّف الوصول إليها أعزّ ما في البلاد. ففي فعلهم هذا ما
يُجسّد التنوّع وتنافس الأفكار، وفيه أيضاً ما يُبقي الشؤون الدنيوية - حصراً - محور
التنازع السياسي والثقافي...
زياد ماجد