يمكن التأريخ، ولو اختزالاً،
لهيمنة النظام السوري على لبنان إنطلاقاً من جريمتين: جريمة تأسيسية كرّست نظام آل
الأسد عرّاباً للحرب اللبنانية ثم مفاوضاً على إنهائها على أساس "التوأمة"؛
وجريمة خالت نفسها تعيد التأسيس فإذا بها ختامية تُسدِل الستار على حقبة الهيمنة
وتفصل "التوأمين" رغم محاولات الوصل اللاحقة.
الجريمة الأولى، في زمن الأسد
الأب استهدفت كمال جنبلاط في 16 آذار 1977، طاوية رسمياً صفحة ما سُمّي حربَ
السنتين لبنانياً، ومفتتحة انتقال إدارة الحرب بفصولها المتعاقبة الى دمشق؛ وهو
إنتقال سيُسفر بعد 13 عاماً واجتياحَين اسرائيليّين وأكثر من مئة وعشرين ألف قتيل عن
وقف الحرب والسيطرة السياسية على لبنان مع استنساخ تجربة الدولة الأمنية فيه بصيغة
معدّلة – أكثر لطفاً من النسخة الأصلية – لتُصاحب مشاريع إعادة إعمار وتدخل "شريكاً
مضارباً" فيها.
أما الجريمة الثانية، في زمن
الأسد الوريث الإبن، فأطاحت برفيق الحريري، في مثل هذا اليوم قبل سبع سنوات وأطاحت
كذلك بالسيطرة المباشرة على لبنان نتيجة الهبّة الشعبية اللبنانية والضغط الدولي، تاركة
الحليف الأول – حزب الله – يحاول الإمساك بالوضع وتجميده وفق الموقع "المخصّص" لبيروت في حلف طهران دمشق.
وبين الجريمة الأولى التي تَوّجت
إسقاط مخيّم تلّ الزعتر وضرب الأسد الأب للتحالف الفلسطيني- اليساري، والجريمة
الثانية التي ظنّها الأسد الإبن تُبعد شبح صعود قِوام استقلالي لبناني ممثّل هذه
المرة برئيس وزراء سنّي، بعد أن كان الأمر اختصاصاً سياسياً مارونياً، تغيّر لبنان
وتغيّرت سوريا.
فالشقيق الأصغر شهد تبدّلات
عميقة في نُخَبه السياسية وثقافتها وفي ديموغرافيّته وتبعاتِها. وشهد كذلك مركزيّة
تمثيل طائفي غير مسبوقة بحيث تمحورت أكثريات كبرى حول طرف أو طرفين داخل كل طائفة،
مع تحوّل الاستنجاد بحلفاء خارجيين لهؤلاء عند تصادُمهم الى علاقة عضوية تتخطّى الظرفية...
هكذا، صار لبنان أسير هشاشة إجماعاته الوطنية وما تنتِجه من آليات تعطيل للمؤسسات
السياسية من ناحية، وصراعات المنطقة ومحاورها وبرامجها النووية المدعومة بسلاح
خارج الدولة من ناحية ثانية.
والشقيق الأكبر كان بدوره، يشهد
تحوّلات ظهرت إرهاصاتها على دفعات، بعد سنوات طويلة من مجزرة حماة ومقتلة تدمر،
أبرزها عام 2000 ما عُرف بربيع دمشق المُجهض الذي ترافق مع موت الأب وانتقال
السلطة الى الوَلد، ثم محاولة القوى الديمقراطية إحياءه من خلال إعلان دمشق للتغيير
عام 2005، وتعرّضها بدورها لضربات النظام "الجديد" الذي لم تتغيّر ثقافة
بطشه كثيراً. لكن الأهمّ أن جيلاً سورياً جديداً كان يكوّن بصمت وعيه السياسي
وينسج بمثابرة رواية سيشرع في كتابة فصولها لاحقاً، بعد بضع سنوات...
واليوم، في ذكرى 14 شباط، تبدو
الأمور في لبنان مجمّدة، بانتظار جلاء صورة المنطقة. وتبدو في المقابل الأمور في سوريا
سريعة الحركة. فثمة ثورة هناك! ثورة تُعيد رسم البلاد، وثورة سيوفّر انتصارها
المقبل بعض العدالة لكل من سقط صريع جرائم الأب وابنه، في لبنان وبين الفلسطينيين،
وقبلهما ومعهما وبعدهما، في سوريا، على مدى 42 عاماً.
زياد ماجد