يمكن تقسيم المحذّرين من تدخّل خارجي في الشؤون "الداخلية" العربية الى ثلاث فئات.
الأولى، تُؤثر شتم الخارج والتخويف من مطامعه وأهدافه الخبيثة دفاعاً منها عن الأنظمة المُهدّدة بتدخّله، أي تلك التي تُعمل في أبناء وبنات بلادها قتلاً وتعذيباً. وبين المنضوين في الفئة هذه يقبع يساريون وقوميون وإسلاميّون وطائفيّون أقلّويّون متحالفون بأكثرهم مع النظام السوري لأسباب مختلفة، بعضها نفعيّ وبعضها استراتيجي وبعضها ذِمّي، وبعضها الآخر يبدو أشبه بالغيب لكثرة ما نادى بما لا أثر له في عالم اليَقين: "مقاومة إسرئيل وممانعة أميركا".
الثانية، تُعلن رفض التدخّل الخارجي من موقع يُراوح بين الحياد تجاه الأنظمة العربية المعنية ومعارضتها. وأتباع الفئة هذه مرتبِكون في مواقفهم، خائفون من أن يُؤخذ عليهم تأييدٌ أو شبهة تأييد لأي تدخّل "غربي"، وجلّهم من اليساريين الذين بنوا تراثاً سياسياً في مناهضة أميركا، فصاروا في كل موقف يخشون ممّا قد يُعدّ تقاطعاً في مواقفهم من موضوع بمواقف أميركا. أما المحايدون من بينهم، فغالباً مُكرهون خجلاً على الحياد، ويُحاولون الاحتماء بشعار "رفض التدخّل" لِكي يبرّروا اكتفاءهم بالصمت.
والفئة الثالثة، هي تلك المفطورة على تكرار ما تسمعه منذ عقود من أحاديث عن المؤامرات والمكائد واستهداف "الأمة العربية والإسلامية"، وهي لا تملك أكثر من التنديد من عقد "الغرب" عزمه على نهب ثرواتها وتفتيتها والتحكّم بها.
وإذا كانت مُحاججة الفئة الأولى لا طائل منها ولا حاجة لها أصلاً، فإن البحث في بعض المسائل التي "تُربك" الفئة الثانية أو تسائل بداهات الفئة الثالثة قد يكون مفيداً.
وهنا لا بد من التعرّض، ولو سريعاً، لأربع مسائل.
المسألة الأولى هي في معنى التدخّل. فالأخير يمكن أن يكون عقوبات إقتصادية، أو تجميد أرصدة، أو حظر بيع أسلحة، أو قطع علاقات ديبلوماسية، أو رفع دعاوى، أو منع سفر، أو إجراءات بحق أفراد أو هيئات محدّدة. وهذه جميعها تأتي في سياقات قانونية من واجب المؤسسات الدولية الخوض فيها، ومن واجب الدول الالتزام بموجباتها.
ويمكن للتدخّل أن يكون أيضاً عسكرياً بموجب مقرّرات لمجلس الأمن، وعلى أساس تفويض لدول أو لتحالفات قادرة على تنفيذه.
وإن كان لا شيء يبرّر رفض "التدخّل" بصيغه غير العسكرية المذكورة ضد نظام أو نظم تقتل شعوبها، فإن الموقف من التدخّل العسكري - بوصفه واحداً من الآليات التي تُعتمد في حالات الانتهاك الخطيرة للقوانين والاتفاقيات والمعاهدات - ينبغي أن يرتبط بتقييم جدواه ونتائجه وآثاره. أما القول بازدواجية المعايير في العلاقات الدولية – وهي ازدواجية قائمة ومقيتة فعلاً خاصة حين تتعلّق بجرائم إسرائيل واحتلالها – لرفضه بالمطلق، فأمر لا معنى له، إذ أن المطلوب تعميم احترام القانون وفرض هذا الاحترام في كل الأمكنة، لا تقويضه في مكان بحجّة غيابه في مكان آخر.
على أن نقاش التدخل العسكري، وبمعزل عن كل ذلك، غير مفيد في الحالة السورية لأنه ببساطة غير مطروح – حتى بمعزل عن الموقفين الروسي والصيني منه -، وبالتالي لا طائل من محورة اختلافات حول فرضيّته غير القائمة.
المسألة الثانية، هي في تعريف معنى سيادة الداخل ورفض تدخّل الخارج. ذلك أن السياق الذي غالباً ما تَرِد فيه مقولة الرفض، يرتبط بانتهاكات حقوق الانسان. بذلك، يصبح التماهي بين سيادة الداخل وفعل الانتهاك مبعثاً على الدعوة لرفض الرفض الخارجي لهذا الانتهاك، خاصة أن المستنفَرين ضد "الخارج" لا يستنفرهم حضور الأخير في مختلف المجالات الاقتصادية والاستهلاكية في المجتمع ولا في عقود التسليح والتجهيز في الدولة. ويأتي إبرازهم السيادة بوصفها تجسيداً لحق نظام في التشنيع بشعبه إساءة الى معنى السيادة نفسه والى وظائفها، بقدر إساءته الى الشعب – الضحية.
المسألة الثالثة، هي تلك التي ترى في الخارج على الدوام شبح أميركا ومؤامراتها، فتقرّر الاستسلام للداخل، والقبول بجرائمه للحيلولة دون استفادة "المتآمرين" المتربّصين منها. هكذا يصبح قتل نظام صدام حسين لمئات ألوف العراقيين (ومقدار ذلك من الإيرانيين)، تماماً مثل قتل النظامين السوري والليبي لعشرات ألوف السوريين والليبيين، وتواطؤ النظام السوداني مع قَتَلة عشرات ألوف الدارفوريين، يصبح كلّه تفاصيل ينبغي الترفّع عن مواجهتها قطعاً للطريق أمام المخطّطات الأميركية ومساعي التدخّل والسيطرة والتفتيت، على أساس أن الردّ على الأعداء في الخارج يكمن في دعم القمع والاستبداد والقتل والفساد في الداخل...
والمسألة الرابعة، هي تلك الخاصة بالتبسيطيات الهاجسة بالثروات التي يريد "الخارج" نهبها والعقود التي يسعى لانتزاعها من خلال تدخّله. وهذه سمعناها كثيراً خلال الحرب الليبية ومشاركة "حلف شمالي الأطلسي" فيها على نحو أتاح حسمها لصالح الثوار. والمفارقة في التبسيطيات هذه أنها تفترض أمراً وتنسى آخر: تفترض أن الثروات – النفطية بخاصة – موجودة لتبقى في جوف الأرض كي تتم المحافظة عليها، وأن بيعها تفريط بها أو نهب من شراتها لها! وتنسى أن الغرب ذاته حصل خلال سنوات القذافي المديدة على عقود لا تُحصى عائداتها وعمولاتها، ولا يعرف أحد كيف تصرّف بها. في الحالين إذن، التبسيط متهافت وغالباً ما هو مبتذل.
خلاصة القول، إن مقاربة التدخّل الخارجي شأن أبعد من التصنيفات والاعتبارات المُسبقة المعزولة عن قراءة المصالح والتوازنات واختلاف الحالات والأشكال. وأن الأهم هو تحديد الموقف من الداخل قبل الحديث في الخارج، كي لا يختبئ البعض خلف مقولات المؤامرات والهيمنة ومشاريع التفتيت للهروب من البوح بآرائهم في الاستبداد وآلته الجهنّمية.
زياد ماجد