Tuesday, March 1, 2011

تحوّلات... وشعور جديد

لمراقب لأحوال العالم العربي أن يقول هذه الأيام إن سقوط حكّام مستبدّين وأنظمة فاسدة واضطرار أخرى الى المباشرة بإجراءات وإصلاحات كانت ترفضها منذ سنين ليس سوى رأس جبل الجليد. ذلك أن التحوّلات العربية عميقة في الكثير من البلدان، وليست الهبّات الشعبية سوى واحدة من علاماتها، ولو أنها العلامات الأكثر إثارة والأكثر أهمّية في المسارات السياسية المباشرة. 

ولعلّ استعراض بعض العناصر المظهرة عمق التحوّلات يفيد لاستكشافٍ، ولو أوّلي، لجبل الجليد المذكور.
من هذه العناصر مثلاً:
- تبدّل التركيبة السكانية العربية في العقود الماضية لصالح أكثريات تقيم في المدن. وهذا التبدّل أتاح فرص تواصل معيشي في مساحات غير مقطّعة عدّلت في الكثير من المفاهيم وسمحت بتلاقٍ سياسي أو مصلحي أو عاطفي لم يكن التباعد الجغرافي في الأرياف والبوادي يوفّره (بمعزل عن مفاعيل الترييف للمدن ونتائجه على أكثر من صعيد ثقافي وعمراني – وهذا شأن آخر).
- تطوّر بعض القيم الاجتماعية في أوساط الطبقة الوسطى واتجاه أفرادها نحو السكن في عائلاتهم المصغرة من دون الغرق كما في السابق في العائلات الموسّعة. وهذا حرّر قسماً من الأفراد من علاقات وأعباء اقتصادية يومية كانت تضبط تفاصيل حياتهم، ووفّر لبنات ونساء مساحة ولو محدودة من الحرية في التصرف بالوقت ومن التواصل بالتالي مع ما يجري في محيطهن، ومن الانخراط في مختلف مراحل الدراسة المدرسية والجامعية، كما في بعض قطاعات سوق العمل.
- تخطّي نسبة من هم بين ال15 وال30 عاماً من سكان المنطقة حدود ال30 في المئة من إجمالي سكّانها. وهؤلاء بأكثرهم يتعلّمون – ولو بمستويات شديدة التفاوت – ويعملون أو يبحثون عن عمل، ويستخدم جزء كبير منهم الانترنت والهواتف النقالة ويسجّل الأفلام على شبكات اليوتيوب أو يحمّلها على الفايسبوك، مُعَولماً بالتالي ما لديه، وعارفاً ببعض ما لدى الآخرين. وفي هذا ما جعل تراسلهم يتّسع بسرعة قياسية ويخلق بينهم حالات من التماهي والتماثل السمعي البصري الذي لم تكن قنوات الإعلام العادية ولا الصحف تسمح بقيامه.


- بناء روابط اجتماعية وسياسية كان الاستبداد قد حطّمها. والبناء الجديد يصعب ضبطه أو منعه.   فروابطه نشأت في عالم بدأ "إفتراضياً" virtual (هو الانترنت)، ثم حوّلته شحنات انفعال جماعي (أعقبت إحراق البوعزيزي نفسه رفضاً للمهانة في تونس، أو رفع شعار "كلنا خالد سعيد" تنديداً ببربرية قتل الشرطة لشاب في مصر) الى علاقات حقيقية أو "مكانية" في مظاهرات واعتصامات وندوات وحفلات أطلقت جميعها عملية تملّك جماعي للحيز العام وللعديد من وظائفه.

وكل هذا ولّد مشاعر جديدة في المنطقة. مشاعر اعتزاز بالتحرّر من الخوف، ومشاعر افتخار ببناء مواطنية وبإثارة تضامن إنساني أولاً، وطني ثانياً، صارت تجد في الساحات (بعد الشاشات) بأيامها ولياليها ترجمة لها وتعبيراً عنها.
وكل هذا أيضاً من شأنه أن يولّد معنى جديداً للانتماء الى العالم العربي، لا علاقة له بالمفاهيم القومية البالية، ولا بالولاء لتيارات أو زعامات. هو انتماء الى لحظات تأسيسية في بلاد يتحدّث شبابها وشاباتها لغة واحدة، ويفهمون صعوبة أوضاعها ويعيشون كيّ مظالمها. وهو انتساب كذلك الى قضايا إنسانية توحّد بينهم وبين بشر المعمورة. قضايا الحرية والكرامة والخبز، التي من دونها لا تألّق لأي قضية أخرى...
زياد ماجد