طغت عدّة أمور على نقاش معظم الفرقاء السياسيين لمسألة العلمانية في لبنان في السنوات السابقة على نحو جعلها أسيرة معادلات تحاول توظيفها لأسباب بعيدة عنها وعن مفاهيمها ومستلزماتها
فهناك من أعلاها شعاراً وحاول تحويلها منطلقاً للفرز السياسي في البلاد تهرّباً من اتّخاذ موقف واضح من القضايا الأساسية: العلاقة بالنظام السوري وبالمحكمة الدولية وبسلاح حزب الله وبشكل الصراع مع إسرائيل وبشروط التموضع في المنطقة. وهي قضايا يمكن لعلمانيين وغير علمانيين الاتفاق كما الاختلاف بشأنها.
وهناك من نادى بها لوضعها مقابل طرح إلغاء الطائفية السياسية الذي لا يريد، لعلمه أن المنادين بهذا الإلغاء لا يقبلون بدورهم بها، فيتعادلون بالتالي تعطيلاً لها ولإلغاء الطائفية على حدّ سواء.
وهناك من تحدّث بها رفعاً للعتب أو اضطراراً بسبب هويّته الإسمية، ثم تهرّب من جميع مؤدّياتها ومتطلّباتها خوفاً من إحراج حلفائه واستثارتهم.
وهناك أيضاً من اعتبر أن شتمه للطائفية وهجاءه للطائفيين كافيان لجعله علمانياً مؤتمناً على مبدأ فصل الدين عن الدولة وما يفرضه من شروط في بلد "الديمقراطية التوافقية" وال18 جماعة طائفية وال15 قانون أحوال شخصية...
بهذا، تحوّلت العلمانية في السياق السياسي وأدبيّاته الى شعار للمزايدة أو الابتزاز والى وسيلة تلطّ لتجنّب الخوض في قضايا أخرى. كما أنها تعرّضت لحملات كادت تسطّحها وتحرّرها من الكثير من أبعادها، أو كادت تجرّمها وتخوّف منها.
على أن العلمانية، بعيداً عن كل هذا، مسألة مسارات إرادَويّة مركّبة تبدأ بسنّ قوانين موحّدة للأحوال الشخصية تساوي بين اللبنانيين (بنسائهم ورجالهم)، وتمرّ بمناهج تعليم رسمي تجعل الدين مادة دراسية مندرجة في مناهج الفلسفة والتاريخ، وتصل الى تحرير الإدارة من الطائفية ثم الى تحرير المراكز السياسية منها، من دون أن تُسقط تنظيم المؤسسات المذهبية وأوقافها، ووضع الشروط على التمويل الخارجي للأنشطة والبرامج الدينية، وتقليص العطل الرسمية في المناسبات الدينية وغيرها من أمور معمول بها في أكثر الدول الديمقراطية الفاصلة مؤسساتها عن دين مواطنيها أو أديانهم، التاركة للأفراد حق اختيار معتقداتهم وممارسة شعائرهم مقابل احترامهم الدساتير والقوانين الوضعيّة التي تصدرها الهيئات التشريعية المُنتخبة أو القانونية المختصة
والعلمانية في لبنان، إن انتُزعت من المتاريس وتحوّلت مطلباً مواطنياً يرفعه أناس سئموا ثقافة طائفية ونظماً وممارسات تمييزية، وإن صارت راية لمسيرة تجمع في صفوفها أفراداً لهم خياراتهم السياسية ومواقعهم المختلفة والمتناقضة أحياناً، بدأت تستعيد بعضاً من عافية المناداة بها وعادت مطلباً يتمسّك به لبنانيون لا يتجانسون سياسياً بالضرورة ولا يستطيع أحدٌ منهم ادّعاء ملكية حصرية لها، ولا توهّم قدرة على تحقيق مقتضياتها في المستقبل القريب (فلا يكون توهّم النجاح السريع شرطاً للمطالبة بها)...
فعسى أن تكون مسيرة 25 نيسان القادم برمزيتها وبتوقيتها وباستقلالية منظّميها والمبادرين الى الدعوة إليها بداية لاستعادة العافية هذه، ومنطلقاً لتحرّكات ونشاطات تكبر وتتنقّل من منطقة الى أخرى. وفي كل الأحوال، للمسيرة المقبلة الفضل في إطلاق دينامية قد تنمو فتصبح جِدّة في المشهد السياسي – الاجتماعي في لبنان. وهي جِدّة لا تلغي استمرار انقسام دعاتها على قضايا كثيرة أخرى، ولا تغني عن استمرار العمل في سبيل الدفاع عن القضايا تلك...
زياد ماجد